الثلاثاء 17 / جمادى الأولى / 1446 - 19 / نوفمبر 2024
حديث «إذا نودي بالصلاة أدبر الشيطان وله ضراط..»
التحميل: 0
مرات الإستماع: 0

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعدُ:

ففي باب فضل الأذان، أورد المصنف -رحمه الله- حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: إذا نودي للصلاة أدبر الشيطان له ضراط، حتى لا يسمع التأذين، فإذا قضي الأذان أقبل، حتى إذا ثوب للصلاة أدبر ، حتى إذا قضي التثويب أقبل، حتى يخطر بين المرء ونفسه، يقول: اذكر كذا، واذكر كذا، لما لم يكن يذكر من قبل، حتى يظل الرجل ما يدري كم صلى[1]، متفق عليه.

قوله ﷺ: إذا نودي للصلاة[2] يعني: إذا أُذن لها، والنداء هو الأذان، وفي رواية: بالصلاة[3]، أدبر الشيطان يعني: ولى.

قال: له ضراط، حتى لا يسمع التأذين لاحظ هنا جاء التعليل؛ لفعله هذا حتى لا يسمع التأذين ومعنى ذلك محمول على ظاهره، والله تعالى أعلم، لكن هل يقع له ذلك باختياره أو بغير اختياره؟ بعض أهل العلم يقول: يقع له بغير اختياره، بما يحصل له من الهلع والرعب والانزعاج الشديد، فيحصل له مثل هذا، وبعضهم يقول: يفعله باختياره؛ وذلك كفعل الباعث الساخر، فالنداء يدعو الناس للصلاة، وحضورها؛ وذلك يتطلب الطهارة، وهذا ينصرف ويفعل هذا الفعل الذي هو نقيض الطهارة.

وبعضهم يقول يفعل ذلك من أجل ألا يسمع الأذان، ونحن نقول: الله أعلم لماذا يفعل هذا؟ يعني: هل يفعل هذا باختياره، أو من غير اختياره؟ هذا لم يوقفنا عليه الشارع، لا نعلم، لكنه يحصل ذلك، والحديث محمول على ظاهره.

ومن أهل العلم من قال: بأن المراد أنه ينفر نفورًا شديدًا، واحتجوا برواية أخرى عند مسلم: أدبر الشيطان، وله حصاص[4]، قالوا: والحصاص هو العدو الشديد، يعني: الجري السريع، يعني يعدو عدوًا شديدًا إذا سمع النداء.

وعلى كل حال يمكن أن يقع ذلك جميعًا للشيطان.

بمعنى: أنه يعدو عدوًا شديدًا، ويحصل منه هذا الفعل المشين، وهنا علله قال: حتى لا يسمع التأذين من فسّره بأن المراد له حصاص يعني يسرع يعدو عدوًا شديدًا، قالوا: من أجل ألا يسمع الأذان، يفر من مصدر الصوت، ومن فسّره وحمله على ظاهره، قال: إنه لشدة فراره يقع له ذلك من الخوف، أو أنه يفعل ذلك قصدًا؛ لئلا يسمع، فالتعليل هنا لا يحسم المعنى، يعني كل طائفة من أهل العلم الذين فسروه بأحد هذه التفسيرات، يقولون: إنما يفعل ذلك حتى لا يسمع النداء، وهذا يدل على أنه ينزعج جدًا من الأذان.

وما المقصود بالشيطان الذي يدبر هنا؟ بعض أهل العلم يقول: هو الكبير إبليس، وبعضهم يقول: كل الشياطين؛ لأن كل متمرد عات فهو شيطان، إما من شطن بمعنى بعد، وإما من شاط يشيط إذا عتى وتمرد، فالشيطان بعيد عن رحمة الله ، وهو أيضًا عات متمرد، وكل عات متمرد فهو شيطان من الإنس والجن، لكن المقصود هنا شياطين الجن، وحمله على عموم الشياطين هو الأقرب -والله تعالى أعلم-، فليس فقط حصرًا إبليس، وإنما كل من يطلق عليه شيطان؛ لأنه ليس كل الجن المنحرفين يقال لهم شياطين، وإنما العتاة يقال لهم: شياطين.

فالعتو على مراتب: منهم المردة، ومنهم دون ذلك، فالشاهد هنا: أنه قال: أدبر الشيطان فيمكن أن يحمل -والله تعالى أعلم- على هذا المعنى، أنه يصدق على كل شيطان من شياطين الجن، بدليل أنه قال بعده: حتى إذا قضي التثويب أقبل، حتى يخطر بين المرء ونفسه فهل الذي يفعل ذلك هو إبليس فقط؟ الذي يشوش على الناس في الصلاة، ويشغلهم عنها؟ هل هذا فقط إبليس أو كل الشياطين؟ كل الشياطين، والشياطين تفر من ذكر الله ، ومن الأذان، وكلما كان الإنسان أكثر تلبسًا بذكر الله ظاهرًا وباطنًا، يعني أن قلبه عامر بالإيمان حقيقة وظاهرًا، يذكر الله على لسانه، فإن الشياطين أبعد ما يكونون منه، بل يخافونه على قدر إيمانه وتقواه، كما كان الشيطان يفر من عمر، وقد جاء في الحديث: والذي نفسي بيده، ما لقيك الشيطان قط سالكًا فجًا إلا سلك فجًا غير فجك[5].

فهنا قال: فإذا قضي النداء إذا هل معنى هذا أن الإنسان مثلاً إذا بدأ الشيطان يوسوس له، وغلبه بالوساوس والخواطر نقول له: أذن؟، هل يشرع هذا؟ أم أنّ الأذان للصلاة؟ الأذان للصلاة، وما ورد من أنه إذا تغولت الغيلان يؤذن هذا لا يصح، ورد بلفظ: ... وإذا تغولت لكم الغيلان، فبادروا بالأذان[6]، وتغولت الغيلان يقولون: إن المسافرين تتمثل لهم الشياطين بصور شتى، صور محسوسة، بصورة غول، مع أن الغول لا حقيقة له في الوجود، العنقاء والغول، العنقاء طائر خيالي، والغول كذلك، يعني على صورة حيوان، يعني: شيطان يتمثل بصورة معينة يقال له: الغول.

فالشاهد: أنه جاء الأمر في حديث لا يصح أنها إذا تغولت الغيلان أننا نلجأ إلى الأذان؛ ولذلك الإنسان يستعيذ بالله من الشيطان الرجيم في حال الغضب مثلاً، ويفعل ما أمر به من الوضوء، ويجلس إذا كان قائمًا، ويضطجع إذا كان جالسًا، وما إلى ذلك من العلاجات التي أرشد إليها النبي ﷺ، ولكن هذا الحديث يفيد فضل الأذان، وأن الشياطين تولي.

الشاهد: أن النبي ﷺ قال: فإذا قضي النداء، أقبل أي: جاء، وقد ذكر بعض الأطباء: أن بعض الأطباء النفسيين في بلاد الغرب يعالجون مرضاهم بالأذان، ويقولون: إنهم يلاحظون عليهم الهدوء والطمأنينة واستقرار النفس، وما إلى ذلك، ما لا يجدونه فيما كانوا يتعاملون به من الموسيقى الهادئة، كما يقولون، أو نحو ذلك، فالشاهد: أن الأذان فيه ذكر الله، وفيه أن الله أكبر من كل شيء، فرفع هذا الأذان يزعج الشياطين جدًا.

قال: فإذا ثوب للصلاة أدبر التثويب: الإقامة، فهو تكرار الشيء، أو الرجوع إليه، ثاب إليه بمعنى: رجع، فالإقامة هي نوع نداء، لكن المقصود به من هم داخل المسجد، فهو لا يحتمل سماعها، فيفر ويدبر إذا سمع الإقامة، لكنه بالرصد، يعني يذهب ويرجع، هل رأيتم الذباب كيف كلما دفعته رجع إليك؟ فهذا أسوأ منه، فيقول: حتى إذا قضي التثويب أقبل يعني: إذا انتهت الإقامة حتى يخطر بين المرء ونفسه يعني: يبدأ يوسوس، و(يخطِر) بالكسر، كما يقال خطِر البعير بذنَبه إذا ضرب به على فخذيه، بمعنى: أنه يوسوس له يلقي الوسواس في قلبه.

وبعضهم ضبطها بالضم (يخطُر) يعني: يدنو يقترب، وهو يقترب للوسوسة، والنبي ﷺ لما أمر برص الصفوف، وقال: رصوا صفوفكم، وقاربوا بينها، وحاذوا بالأعناق، فوالذي نفسي بيده إني لأرى الشيطان يدخل من خلل الصف، كأنها الحذف[7]، كأولاد أولاد الغنم، تتخلل بين المصلين، فما تترك أحدًا لا في مرقص ولا في ملعب، ولا في مسجد، هي -نسأل الله العافية- قد أوصدت لإضلال الخلق، وإشغالهم.

يقول: حتى يخطر بين المرء ونفسه، يقول: اذكر كذا، واذكر كذا ولهذا يتذكر الإنسان بعض الأشياء التي نسيها، وبعض الناس -وهذا غير صحيح- يقولون لمن نسي شيئًا لا يدري أين وضعه؟ كمن وضع مفاتيحه في مكان، أو وضع هاتفه الجوال في مكان لا يدري أين وضعه؟ يقولون له: صلِّ من أجل أن يحضر الشيطان، ويذكره أين وضعه، وهذا ليس بحل على كل حال.

قال: اذكر كذا، واذكر كذا؛ لما يكن يذكر من قبل، حتى يظل الرجل ما يدري كم صلى متفق عليه، لربما يحسبها الإنسان من البداية، لكنه يأتيه الشيطان، ثم بعد ذلك ما يدري هل هذه الركعة الثالثة أم الرابعة؟ سواء كان إمامًا أو مأمومًا، وتجد المأموم ينظر إلى من بجانبه، وإذا كان مسبوقًا ينظر إلى من دخل معه في الصلاة، كم يصلي هذا؟ فيتبعه، ولا يدري عن حقيقة العدد شيئًا، وإنما يقلد من بجانبه، والمشكلة تكون أحيانًا إذا كان الذي بجانبه لم يدخل معه، كمجموعة من المسبوقين، ولم يجد أحدًا دخل معه في الصلاة حينما جاء، فهو لا يدري هذا الذي بجانبه قد أدرك ما أدرك، أو أنه أدرك أكثر، فيبقى متحيرًا.

وبعض المصلين يقول: إذا كنت مع الإمام فأنا معه، وطبعًا وبحسب النغمة كثير من الأئمة إذا جلس للتشهد الأول، قال: الله أكبر، يعني بطريقة يمدها، فيفهم الناس على هذه النغمة أن هذا تشهد، لكن لو أنه قال: الله أكبر يمكن يقوم بعض الناس؛ لأنهم لا يعقلون العدد، وكم صلى، ولو سُئل كثير منهم: ماذا قرأ الإمام؟ لا يدرون ماذا قرأ، ثم أحد هؤلاء يقول: مع الإمام اتبع الإمام ونغمة الإمام، لكن المشكلة إذا صليت وحدي، لا أعرف كم صليت، يقول: فأنا أحصي إذا صليت ركعتين فقط، أن الركعة التي أنا فيها من الأولى أو الثانية من العقال، فإذا كانت الأولى فالعقال لم يسقط على الأرض، وإذا كانت الثانية فالعقال على الأرض معناها أني سجدت، فهذا ضابط عنده، يقول: أنا لا أعرف كم أصلي؛ والسبب أن الشيطان يحضر، ويشغل هذا الإنسان بالخواطر والوسواس، فما يعرف كم صلى؟ كما قال النبي ﷺ، وهذه مشكلة.

وذكرتُ أنني صليت الظهر في مسجد آخر، وكان بجوار المسجد شباب يفحطون، وأصوات مزعجة، فأشغلونا في الصلاة، فصليت الظهر خمسًا، وما قال لي أحد شيئًا، ثم خرجت من المسجد، وكان بصحبتي أحد الأشخاص، فلما ركبنا في السيارة، قال: أنا لاحظت في العادة مقدار صلاة الظهر كذا وكذا دقيقة، اليوم كذا وكذا دقيقة أكثر، فنحن صلينا خمس ركعات، يقول لي هكذا، بالساعة بالوقت لما نظر إلى الساعة متى بدأنا وما شاء الله يحسب بدقة، كم مقدار الصلاة، ويعرف أنه حصل سهو زيادة، أو نقص بالساعة فقط، لكن كل الجماعة ما أحد تكلم، فهذا بسبب ما ذكره النبي ﷺ بقوله: حتى يظل الرجل ما يدري كم صلى فنعوذ بالله من الشياطين، وهمزاتهم، وأن يحضرون.

والله تعالى أعلم.

وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.

  1. أخرجه البخاري في أبواب العمل في الصلاة، باب يفكر الرجل الشيء في الصلاة برقم (1222) ومسلم في كتاب الصلاة، باب فضل الأذان وهرب الشيطان عند سماعه برقم (389).
  2. أخرجها مسلم في كتاب الصلاة، باب فضل الأذان وهرب الشيطان عند سماعه برقم (389).
  3. أخرجها البخاري في أبواب العمل في الصلاة، باب يفكر الرجل الشيء في الصلاة برقم (1222).
  4. أخرجه مسلم في كتاب الصلاة، باب فضل الأذان وهرب الشيطان عند سماعه برقم (389).
  5. أخرجه البخاري في كتاب بدء الخلق، باب صفة إبليس وجنوده برقم (3294) ومسلم في فضائل الصحابة، باب من فضائل عمر -رضي الله عنه- برقم (2396).
  6. أخرجه أحمد ط الرسالة برقم (14277) وقال محققو المسند: "صحيح لغيره دون قوله: ((وإذا تغولت الغيلان فبادروا بالأذان)) ورجاله ثقات رجال الصحيح، لكن الحسن- وهو البصري- لم يسمع من جابر.
  7. أخرجه أبو داود في تفريع أبواب الصفوف، باب تسوية الصفوف برقم (667) وصححه الألباني.

مواد ذات صلة