الثلاثاء 17 / جمادى الأولى / 1446 - 19 / نوفمبر 2024
حديث «يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل..» إلى «من ترك صلاة العصر فقد حبط عمله»
مرات الإستماع: 0

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعدُ:

ففي باب فضل صلاة الصبح والعصر أورد المصنف -رحمه الله- حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل، وملائكة بالنهار، ويجتمعون في صلاة الصبح وصلاة العصر، ثم يعرج الذين باتوا فيكم، فيسألهم الله -وهو أعلم بهم-: كيف تركتم عبادي؟ فيقولون: تركناهم وهم يصلون، وأتيناهم وهو يصلون[1]، متفق عليه.

يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل، وملائكة بالنهار فهؤلاء هم الذين وُكلِّوا بهذه المهام من ملائكة الله ، فإن الملائكة عدد كثير لا يحصيهم إلا الله ، وقد أعطاهم الله من القُدَر والإمكانات والأعمال ما لا يعلمه إلا هو .

ومن هذه الأعمال التي جاء الخبر عنها هذا التعاقب بين ملائكة الليل وملائكة النهار، فالإنسان قد أوكل الله به ملائكة، منهم الحفظة الذين يحفظون الأعمال الحسنات والسيئات مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ [ق:18] وهناك حفظة ليسوا لحفظ الأعمال، كما قال الله -تبارك وتعالى-: لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ [الرعد:11] يعني: ملائكة تحوطه وتحفظه؛ وذلك الحفظ هو بأمر الله لهم، فإذا جاء القدر خلو بينهم وبين ما أراد الله -تبارك وتعالى-.

وهنا هؤلاء الملائكة ينزلون، فلا تخلو الأرض منهم، يتعاقبون، فإذا سمعوا أو شاهدوا مجالس الذكر تداعوا وحضروا وحفوا أهلها بأجنحتهم، فهم على نوبتين، طائفة ينزلون في وقت، ثم يرتفعون في الوقت الآخر، وينزل آخرون، فيتقابلون، فلا تخلو الأرض منهم بحال، وهكذا في كل يوم.

فقوله ﷺ: يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار يعني: طائفة من العصر إلى الفجر، وطائفة من صلاة الفجر إلى صلاة العصر، فالله -تبارك وتعالى- يسأل الذين يصعدون إليه: كيف تركتم عبادي؟ فكل مجموعة من هؤلاء يقولون: أتيناهم وهم يصلون، وتركناهم وهم يصلون يعني: إذا جاؤوا إليهم في وقت صلاة العصر، قالوا: أتيناهم وهم يصلون، ثم ارتفعوا في صلاة الفجر، قالوا: وتركناهم وهم يصلون، والله -تبارك وتعالى- يقول: وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا [الإسراء: 78] والمقصود بقرآن الفجر يعني: القراءة في صلاة الفجر (الفريضة) أي أن صلاة الفجر تشهدها ملائكة الليل، وملائكة النهار، يشهدها طائفة من هؤلاء الملائكة الذين سيصعدون، وطائفة من الملائكة الذين نزلوا في هذا الوقت، فيستمعون القراءة؛ ولهذا شرع التطويل في صلاة الفجر.

يقول: يتعاقبون فيكم ملائكة اللغة المشهورة، وهي لغة عامة العرب بما في ذلك قريش "يتعاقب فيكم ملائكة" فالفعل يفرد، فهنا جمعه يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار وهذه لغة قليلة، هي التي يسمونها لغة: أكلوني البراغيث، يعني: يجمع الفعل (أكلوني) والأصل (أكلني) أو (أكلتني) لكن هنا جمع الفعل، مع الجمع الذي بعده، وهو الفاعل يتعاقبون فيكم ملائكة وهذا من شواهد هذه اللغة، من حديث رسول الله ﷺ.

قال: ثم يعرج الذين باتوا فيكم، فيسألهم الله -وهو أعلم بهم-: كيف تركتم عبادي؟ فيقولون: تركناهم وهم يصلون، وأتيناهم وهم يصلون طيب الذي جاءت الملائكة في وقت الفجر وهو نائم، وجاءت ملائكة في صلاة العصر، وهو نائم، جاء من العمل ونام؟ ينام عن الفجر، وينام عن العصر، كيف تكون حاله مع مثل هذه المقامات والفضائل العظيمة؟!

الآن -أيها الأحبة- لو أنه جاء وفد من الإدارة العليا في الجهة التي تعمل فيها إن كان تعمل في جامعة، فجاء مثلاً إدارة الجامعة ومدير الجامعة ووكلاء الجامعة، ونحو ذلك، وزاروا هذه الأقسام، وسألوا عنه، فقالوا: نائم، ما جاء، وجاؤوا مرة أخرى، وقالوا: ما هو موجود، نائم، وجاؤوا المرة الثالثة نائم، ومرة رابعة، من الذي يسره ذلك؟! من الذي يكون موقفه بهذا الاعتبار مشرفًا؟! يعني: إذا كان الإنسان في مثل هذا مع أناس مثله، لربما يتحرج ويستحي، وبعض الناس قد يخاف، فهؤلاء ملائكة الله يتعاقبون في الفجر وفي العصر، ويرتفعون إلى الله ويسألهم -وهو أعلم- كيف تركتم عبادي؟ فهذا الإنسان الذي يكون نائمًا في صلاة الفجر والعصر، فقد كيف تكون حاله مع مثل هذا؟

ثم ذكر حديث جرير بن عبد الله البجلي قال: كنا عند النبي ﷺ فنظر ليلة البدر، فقال -يعني ليلة اكتمال القمر ليلة الخامس عشر- فقال: إنكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر لا تضامون في رؤيته، فإن استطعتم أن لا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس، وقبل غروبها فافعلوا[2]، متفق عليه.

إنكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر من الذي يراه؟ يراه أهل الإيمان، ويكون بأول الأمر في المحشر معهم أهل النفاق، وأما في الجنة فإن أهل الإيمان يرونه -تبارك وتعالى-، ويكون ذلك أعظم ما يعطون من اللذة.

لا تضامون معنى: لا تضامون كما في مثل هذا الضبط، يعني: لا يلحقكم بذلك ضيم، كذلك لا يلحقكم به عنت ومشقة، يعني الناس لو اجتمعوا على أن يشاهدوا شيئًا، فإنهم يتزاحمون على هذا جدًا، فبعضهم قد يراه، وبعضهم قد لا يراه، ولا يتمكن من ذلك، فيتضاغطون، ولكن الله -تبارك وتعالى- يراه أهل الإيمان من غير تضاغط، كما يرى القمر، كلنا نرى القمر من غير مشقة، وبعضهم ضبطه: "لا تضامُّون" بمعنى: ينضم بعضكم إلى بعض، حتى يرى لبعد الشيء وعدم وضوح، يعني: هذا يقول: انظر هنا، انظر هناك، انظر للشيء الذي يكون بعيدًا، أو لا يرى بشكل واضح، فقرئ بهذا وهذا، والتشبيه هنا ليس بتشبيه للمرئي بالمرئي، يعني: ليس تشبيه الله بالقمر، فالله أجل من أن يشبه بشيء من خلقه، وإنما هو تشبيه للرؤية بالرؤية، كما أن نرى القمر من غير مشقة، ولا تزاحم، ومن غير أن ينضم بعضنا إلى بعض حتى يراه، فكذلك تكون رؤية الله -تبارك وتعالى- من غير عنت ولا مشقة ولا تضاغط ولا زحام، هذا المقصود.

قال: فإن استطعتم لاحظ هنا الفاء تدل على ارتباط بين ما بعدها بما قبلها، موضوع الرؤية هنا له ارتباط بما ذُكر بعده، وهو قوله: فإن استطعتم أن لا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس -وهي الفجر- وقبل غروبها فافعلوا يعني صلاة العصر، فهذا يشعر أن المحافظة على هاتين الصلاتين سبب لتحقق هذه الرؤية، وكما سبق من صلى البردين دخل الجنة[3]، وفي الحديث الأخير الذي سبق: لن يلج النار أحد صلى قبل طلوع الشمس وقبل غروبها[4]، فدل على أن ذلك من أسباب دخول الجنة.

والله -تبارك وتعالى أعلم- أن المحافظة على هاتين الصلاتين مع فضلهما، فالله أقسم بالفجر وبالعصر، والقسم لا يكون إلا لمعظم، يعني الفجر وقت شريف وَالْفَجْرِ ۝ وَلَيَالٍ عَشْرٍ [الفجر:1-2] وكذلك أيضًا أقسم بالعصر، فهذه صلاة عظيمة في هذا الوقت الشريف العظيم، إضافة إلى ما فيها من المشقة على كثير من الناس، وكلما عظمت المشقة كلما كان الأجر أعظم، ومن حافظ على هاتين الصلاتين، فإنه يحافظ على غيرهما من باب أولى، والله تعالى أعلم.

وفي رواية: " فنظر إلى القمر ليلة، يعني البدر"[5].

ثم ذكر حديث بريدة قال: قال رسول الله ﷺ: من ترك صلاة العصر فقد حبط عمله[6]، رواه البخاري.

بعض أهل العلم فسر ذلك بأنه يترك هذه الصلاة إلى خروج الوقت من غير عذر، ويحتج به من يقول: إن من ترك صلاة واحدة من غير عذر حتى يخرج الوقت أنه يكفر بذلك، هكذا قال بعض أهل العلم.

وفي الحديث الآخر: من فاتته صلاة العصر، فكأنما وتر أهله وماله[7].

والله تعالى أعلم.

وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.

  1. أخرجه البخاري في كتاب مواقيت الصلاة، باب فضل صلاة العصر برقم (555) ومسلم في المساجد ومواضع الصلاة، باب فضل صلاتي الصبح والعصر برقم (632).
  2. أخرجه البخاري في كتاب مواقيت الصلاة، باب فضل صلاة العصر برقم (554) ومسلم في المساجد ومواضع الصلاة، باب فضل صلاتي الصبح والعصر برقم (633).
  3. أخرجه البخاري في كتاب مواقيت الصلاة، باب فضل صلاة الفجر برقم (574) ومسلم في المساجد ومواضع الصلاة، باب فضل صلاتي الصبح والعصر برقم (635).
  4. أخرجه مسلم في كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب فضل صلاتي الصبح والعصر، والمحافظة عليهما برقم (634).
  5. أخرجه البخاري في كتاب مواقيت الصلاة، باب فضل صلاة العصر برقم (554) ومسلم في المساجد ومواضع الصلاة، باب فضل صلاتي الصبح والعصر برقم (633).
  6. أخرجه البخاري في كتاب مواقيت الصلاة، باب من ترك العصر برقم (553).
  7. أخرجه البخاري في كتاب المناقب، باب علامات النبوة في الإسلام برقم (3602) ومسلم في كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب التغليظ في تفويت صلاة العصر برقم (626).

مواد ذات صلة