الثلاثاء 17 / جمادى الأولى / 1446 - 19 / نوفمبر 2024
حديث «إن أعظم الناس أجرًا في الصلاة أبعدهم..»، «بشروا المشائين في الظلم إلى المساجد..»
مرات الإستماع: 0

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعدُ:

ففي "باب فضل المشي إلى المساجد" أورد المصنف -رحمه الله- حديث أبي موسى قال: قال رسول الله ﷺ: إن أعظم الناس أجرًا في الصلاة أبعدهم إليها ممشى، فأبعدهم، والذي ينتظر الصلاة حتى يصليها مع الإمام أعظم أجرًا من الذي يصلي ثم ينام[1]، متفق عليه.

قوله ﷺ: إن أعظم الناس أجرًا في الصلاة يدل على أن الناس يتفاوتون في جزائهم وثوابهم على صلاتهم باعتبارات متعددة، ومن هذه الاعتبارات: ما يتعلق بالخشوع، وحضور القلب، ومنها: ما يتعلق بإقامتها على الوجه المطلوب من استكمال واستيفاء شروطها، وواجباتها، ومستحباتها، وما إلى ذلك.

فتجد بين الرجلين في الصف يقومان للصلاة كما بين المشرق والمغرب، هذا يصلي صلاة ترفعه عند الله وتقربه، وهذا يصلي صلاة لا تزيده من الله إلا بعدًا، وذاك يصلي صلاة لا يؤجر عليها، ولكنها تسقط الطلب والقضاء، وآخر يصلي ويؤجر على هذه الصلاة بنصفها، أو بربعها.

وهكذا يتفاوت الناس، ومن الأشياء التي يتفاوتون فيها الممشى، فالنبي ﷺ هنا يقول: إن أعظم الناس أجرًا في الصلاة أبعدهم إليها ممشى فهذا الذي يأتي من بيت بعيد، أو من متجر بعيد، أو نحو ذلك، أعظم من ذلك الذي يأتي من مكان قريب؛ ولهذا سبق في الحديث الذي قبله وهو حديث أبي بن كعب قال: "كان رجل من الأنصار لا أعلم أحدًا أبعد من المسجد منه، وكان لا تخطئه صلاة، فقيل له: لو اشتريتَ حمارًا تركبه في الظلماء وفي الرمضاء؟ قال: ما يسرني أن منزلي إلى جنب المسجد، إني أريد أن يكتب لي ممشاي إلى المسجد، ورجوعي إذا رجعت إلى أهلي، فقال رسول الله ﷺ: قد جمع الله لك ذلك كله[2].

وفي الحديث الآخر وهو حديث عن جابر بن عبد الله قال: خلت البقاع حول المسجد، فأراد بنو سلمة أن ينتقلوا إلى قرب المسجد، فبلغ ذلك رسول الله ﷺ، فقال لهم: إنه بلغني أنكم تريدون أن تنتقلوا قرب المسجد قالوا: نعم، يا رسول الله قد أردنا ذلك، فقال: يا بني سلمة دياركم تكتب آثاركم، دياركم تكتب آثاركم[3].

فهذا من الأشياء التي يتفاوت الناس فيها، ولو أن القلب وعى هذا، وحصل فيه اليقين بموعود الله -تبارك وتعالى- لكان ذلك من دواعي سروره وسعادته وغبطته، أعني: المجيء من مكان بعيد من المسجد، والناس قد يغبطون من كان قريبًا من المسجد، من أجل أن ذلك لا يشق عليه، وهذا في أهل الصلاح، وإلا فإن البعداء عن الله وبيوته وذكره وعبادته، فهؤلاء لا يريدون القرب من المسجد أصلاً، ولا سماع الأذان، ولا التأذي بذلك؛ لأن ذلك يؤذيهم كما هو شأن الشياطين.

وهنا قال: أبعدهم إليها ممشى، فأبعدهم، والذي ينتظر الصلاة حتى يصليها مع الإمام أعظم أجرًا من الذي يصلي ثم ينام وأخبر النبي ﷺ: لا يزال أحدكم في صلاة ما دام ينتظرها، ولا تزال الملائكة تصلي على أحدكم ما دام في المسجد، اللهم اغفر له، اللهم ارحمه، ما لم يحدث[4]، فلو جلس الإنسان من المغرب إلى العشاء يكون في صلاة ما دامت الصلاة تحبسه ما دام ينتظر، وإذا جاء من الأذان، فإنه لم يزل في صلاة حتى تقام الصلاة، ويدخل فيها، فهو في صلاة قبلها، وفي صلاة في أثنائها.

ثم ذكر حديث بريدة عن النبي ﷺ أنه قال: بشروا المشائين في الظلم إلى المساجد بالنور التام يوم القيامة[5]، رواه أبو داود، والترمذي.

فقوله: بشروا المشائين في الظلم بشروهم يعني: أخبروهم بما يسرهم، فإن البشارة في الأصل تقال لهذا؛ وذلك أنه يظهر فيها أثر المبشر به على وجه المبشر من سعادة وغبطة، وما إلى ذلك، كما يظهر فيه أثر الغضب، أو أثر الحياء، وما إلى هذا، فهذا في غالب استعمالها، وإن كانت قد تستعمل فيما يقابله، وهو التبشير بما يسوء، كما قال الله : فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ [آل عمران:21].

وقال الشاعر:

وَخَيْلً قَدْ دَلَفْتُ لَها بِخَيْلٍ تَحيَّةُ بَيْنِهمْ ضَرْبٌ وَجيعُ[6]

يعني: سماها تحية، وفي البشارة قال:

يُبَشِّرُني الغُرابُ بِبَيْنِ أهلي فقُلْتُ له: ثَكِلْتُكَ مِنْ بشيرِ[7]

يبشرني؛ لأنهم يتشاءمون بالغراب، وصوته، وهذا لا يجوز حرام، وهذه بهيمة لا شأن لها، لكن هذا يقول: يبشرني الغراب ببين أهلي، يعني بفراقهم، فقلت له: ثكلتك من بشير.

وَبَشَّرْتَنِي يَا سَعْدُ أَنَّ أَحِبَّتِي جَفُونِي وَأَنَّ الْوُدَّ مَوْعِدُهُ الْحَشْرُ[8]

على كل حال هنا يقول: بشر المشائين في الظلم أخبرهم بما يسرهم، وأبشروا بما عند الله من أجر عظيم، والنور التام، قال: بالنور التام يوم القيامة وهذا يكون لأهل الإيمان الكمّل؛ لأن أهل الإيمان يكون لهم من النور يوم القيامة كما هو معلوم، نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا [التحريم:8] حينما يمشون على الصراط، وهو في ظلمة، وينطفأ نور المنافقين، ويقولون: انْظُرُونَا يعني: انتظرونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ [الحديد:13] فالذين يمشون في الظلم يكون لهم النور التام يوم القيامة، فأهل الإيمان يتفاوت نورهم، فمنهم من لا يتجاوز قدميه، فهؤلاء يكمل نورهم، والمشي في الظلم إلى المساجد يدخل فيه المشي إلى صلاة العشاء، كما يدخل فيه أيضًا المشي إلى صلاة الفجر.

فأسأل الله -تبارك وتعالى- أن يعيننا وإياكم على ذكره وشكره وحسن عبادته.

والله أعلم.

وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.

  1. أخرجه البخاري في كتاب الأذان، باب فضل صلاة الفجر في جماعة برقم (651) ومسلم في كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب فضل كثرة الخطا إلى المساجد برقم (662).
  2. أخرجه مسلم في كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب فضل كثرة الخطا إلى المساجد برقم (663).
  3. أخرجه البخاري في كتاب فضائل المدينة باب كراهية النبي صلى الله عليه وسلم أن تعرى المدينة (1887) ومسلم في كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب فضل كثرة الخطا إلى المساجد برقم (665).
  4. أخرجه الترمذي ت شاكر في أبواب الصلاة، باب ما جاء في القعود في المسجد وانتظار الصلاة من الفضل برقم (330).
  5. أخرجه الترمذي ت شاكر في أبواب الصلاة، باب ما جاء في فضل العشاء والفجر في الجماعة برقم (223) وأبو داود في كتاب الصلاة باب ما جاء في المشي إلى الصلاة في الظلام (561).
  6. البيت في شرح ديوان المتنبي للعكبري (4/109) لعَمْرو بن معدي كرب.
  7. البيت في الدر المصون في علوم الكتاب المكنون (1/209) بلا نسبة لقائل.
  8. البيت في البحر المحيط في التفسير (1/180) بلا نسبة لقائل.

مواد ذات صلة