الثلاثاء 17 / جمادى الأولى / 1446 - 19 / نوفمبر 2024
حديث "أوصاني خليلي.." إلى "ذهبت إلى رسول الله عام الفتح.."
مرات الإستماع: 0

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فهذا باب فضل صلاة الضحى، وبيان أقلها وأكثرها وأوسطها، والحث على المحافظة عليها.

الضحى يقال للوقت الذي يكون فيه ظهور أنوار الصباح، وحينما تظهر وتتضح إشراقاته، وذلك يكون بعد ارتفاع الشمس بقدر رمح، بمعنى: أن ذلك يكون حينما يتضح الصباح ويظهر، وذلك على مراتب، فأوله ما ذكرتُ، وأوسطه يكون بعد ذلك بمدة، حيث ترتفع الشمس، ويبدأ حرها، وأعلاه يكون ما قبل الزوال، حيث ترمض الفصال، وهنا يقول: بيان فضل صلاة الضحى، وصلاة الضحى هي الصلاة التي تصلى في ذلك الوقت، وكثير من أهل العلم تكلموا على أقلها وأكثرها، كثير منهم يقولون: بأن أقل صلاة الضحى بمقدار ركعتين، وأن ذلك يجزي عنه لتحصيل الفضل المذكور -كما سيأتي- وأن أكثر تلك الصلاة يقدره بعضهم بثنتي عشرة ركعة، وكثير من أهل العلم يقدره بثمان.

أما الأول فبناء على حديث ضعيف في الباب، وأما الثاني فبناء على ما جاء عنه ﷺ كما سيأتي من أنه صلى عام الفتح ثمان ركعات[1] وجاء مصرحًا في بعض رواياته أنها صلاة الضحى[2] هكذا فهموا من فعله المجرد ﷺ وعلى كل حال ثبت عنه ﷺ أنه صلى أربع ركعات في الضحى، وهذا الوقت من ارتفاع الشمس قدر رمح إلى ما قبل الزوال هو وقت للصلاة، وإذا نظرت في سير أهل العلم، والعباد منهم تجد أنهم يستغرقون هذا الوقت في الصلاة، فيصلون صلاة كثيرة حتى يدخل وقت النهي.

قال: وبيان أقلها وأكثرها وأوسطها، يقصد بالأقل: أنه يصلي ركعتين، وبالأوسط: أربع، وبالأكثر: ثمان؛ بناء على الروايات الصحيحة، ولكن فعله المجرد -ﷺ هل يدل على التحديد أن يقال أكثر صلاة الضحى ثمان؟ على كل حال ذكر حديث أبي هريرة قال: "أوصاني خليلي ﷺ بثلاث" يعني: بثلاث خصال: "بصيام ثلاثة أيام من كل شهر، وركعتي الضحى، وأن أوتر قبل أن أرقد" [3] متفق عليه.

"أوصاني خليلي" الخلة: مرتبة عالية في المحبة، تقال حيث تبلغ المحبة إلى حال، ودرجة تصير كأنها قد حصل لها تداخل، وامتزاج مع القلب، يقال: الخلة، كأنها تخالت القلب، ودخلت في أعماقه، والنبي ﷺ يقول: لو كنت متخذًا خليلاً؛ لاتخذت أبا بكر خليلاً [4] فذلك بالنسبة إليه ﷺ أنه لا يتخذ أحدًا من أهل الأرض خليلاً، ولكن الناس لا شك أن أهل الإيمان تبلغ بهم المحبة برسول الله ﷺ إلى هذه الدرجة، والمرتبة.

يقول: "أوصاني خليلي" والوصية هي ما يقال مما يطلب من الإنسان أن يفعله، أو أن يتركه مع حث وترغيب أو ترهيب "أوصاني خليلي ﷺ بصيام ثلاثة أيام من كل شهر" ثلاثة أيام من كل شهر أيًا كانت، فأطلقها، والحسنة بعشر أمثالها، فيكون ذلك كصيام الدهر، سواء كان ذلك بصيام الأيام البيض، وهي: الثالث عشر، والرابع عشر، والخامس عشر، أو كانت من الأيام السود، كل ذلك لا إشكال فيه، أو تكون مفرقة، يعني: لا يلزم أن تكون من سرر الشهر، يعني: في أوله، أو أن يكون ذلك في آخره، فيمكن أن يصوم الاثنين، والخميس، أو نحو ذلك.

قال: "وركعتي الضحى" فهنا ذكر ركعتين، أوصى بها ﷺ أبا هريرة فدل ذلك على أن أقل ما يصلى في الضحى هو ركعتين، وهذا لا إشكال فيه بالاتفاق، وأن أوتر قبل أن أرقد النبي ﷺ مضى في الليلة الماضية أنه قال: اجعلوا صلاتكم في الليل وترًا [5] فمن كان يشتغل بعلم، أو نحو ذلك بطلب العلم، أو بغير ذلك مما قد يسهر من أجله، وقد لا يتمكن من القيام في آخر الليل، فإنه يوصى أن يوتر في أول الليل، فإن قام من آخره فإنه يصلي شفعًا.

فأبو هريرة كان يشتغل بحديث رسول الله ﷺ ويذاكر ذلك فأوصاه بهذه الوصية، يقول: والإيتار قبل النوم -هذا كلام النووي رحمه الله- إنما يستحب لمن لا يثق بالاستيقاظ آخر الليل، فإن وثق؛ فآخر الليل أفضل[6].

ثم ذكر حديث أبي ذر عن النبي ﷺ قال: يصبح على كل سلامى من الناس، أو من أحدكم صدقة، فكل تسبيحة صدقة، وكل تحميدة صدقة، وكل تهليلة صدقة، وكل تكبيرة صدقة، وأمر بالمعروف صدقة، ونهي عن المنكر صدقة، ويجزئ من ذلك ركعتان يركعهما من الضحى [7] رواه مسلم.

يصبح على كل سلامى من أحدكم صدقة يعني: يمكن أن يحمل هنا قوله يصبح على الدخول في الصباح، يعني: في كل يوم يصبح فيه الإنسان؛ فعليه هذه الصدقات، على كل سلامى، يعني: على كل مفصل، والإنسان كما جاء في روايات أخرى لهذا الحديث فيه ثلاثمائة وستون مفصلاً، فيحتاج أن يتصدق عنها شكرًا لله -تبارك وتعالى- بهذا القدر كل يوم، لكن ذلك يشق على الناس، فجاء التخفيف، وبين لهم النبي ﷺ أن الصدقة لا تختص بالمال الذي يخرجه الإنسان ابتغاء وجه الله -تبارك وتعالى-، وإنما مفهوم الصدقة أوسع من ذلك، فالتهليل والتحميد والتسبيح والتكبير، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كل هذا، وهكذا الكلمة الطيبة، وتبسمك في وجه أخيك صدقة، كل هذه الأمور.

قال: ويجزئ من ذلك يعني: ما استطاع أن يفعل هذا في كل يوم يجزئ عن ذلك ركعتان يركعهما من الضحى وهذا لا شك أنه فضل من الله -تبارك وتعالى- كبير على عباده، فالإنسان يحاسب على النعم التي أنعم الله -تبارك وتعالى- بها عليه، ويسأل عن شكرها، فإذا فعل ذلك حافظ على هذه الصلاة يرجى له خير عظيم أن يجزئه ذلك عن هذه الأعمال.

وذكر حديث عائشة -رضي الله عنها- قالت: كان رسول الله ﷺ يصلي الضحى أربعًا، ويزيد ما شاء الله[8]، رواه مسلم.

هذا الذي أشار إليه النووي -رحمه الله- بالأوسط[9] يعني: في صلاة الضحى ذكر في الحديث الذي قبله ركعتين، وهنا ذكرت عائشة -رضي الله عنها- الأربع.

ويزيد ما شاء الله، وما حددت، فهذه الزيادة هل تقيد بالثمان، أو لا؟، يعني: هل نستطيع أن نقيد ذلك بفعله المجرد نحن نقول: بأن وقت الضحى هو وقت صلاة، فأقل ذلك أن يصلي ركعتين، وله أن يزيد ما شاء الله، فثبت أنه ﷺ صلى ركعتين، وثبت أنه صلى أربعًا، وثبت أنه صلى ثمان، وجاء في حديث قدسي صحيح: يا ابن آدم اكفني أربعًا في أول النهار؛ أكفك آخره [10] فيكفيه من كل شيء، هكذا فهم بعض أهل العلم، وقيل غير ذلك.

ثم ذكر الحديث الأخير، وهو حديث أم هانئ فاختة بنت أبي طالب -رضي الله عنها- قالت: "ذهبت إلى رسول الله ﷺ عام الفتح -يعني: فتح مكة- فوجدته يغتسل، فلما فرغ من غسله صلى ثمان ركعات، وذلك ضحى". متفق عليه[11]، قال: هذا مختصر لفظ إحدى روايات مسلم.

أم هانئ دخلت عليه عام الفتح من أجل القصة المعروفة، لما أجارت رجلاً، فأراد علي بن أبي طالب أن يقتله، فجاءت إلى رسول الله ﷺ شاكية، فقال لها: قد أجرنا من أجرتِ يا أم هانئ، فوجدت فاطمة تستره بثوب وهو يغتسل -عليه الصلاة والسلام-، فلما فرغ من غسله صلى ثمان ركعات، فأخذ منه بعض أهل العلم أن هذا الحد الأعلى لصلاة الضحى، والواقع أنه لا يحد بذلك.

وهنا هذا الحديث قالت: صلى ثمان ركعات، وذلك ضحى، هذا اللفظ بمجرده لا يدل على صلاة الضحى؛ ولهذا قال بعض أهل العلم: إنها صلاة الفتح، سموا صلاة بهذا الاسم، قالوا: شكرًا لله صلى ثمان ركعات، وقالوا: هذه يقال لها صلاة الفتح، ولكن هذا لا دليل عليه، وقد جاء في بعض روايات الحديث أنها سبحة الضحى، يعني: سنة الضحى، وهذا هو الأقرب، والله تعالى أعلم.

وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه.

  1. أخرجه البخاري، كتاب الصلاة، باب الصلاة في الثوب الواحد ملتحفا به، برقم (357)، ومسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب استحباب صلاة الضحى، وأن أقلها ركعتان، وأكملها ثمان ركعات، وأوسطها أربع ركعات، أو ست، والحث على المحافظة عليها، برقم (719).
  2. أخرجه البخاري، كتاب الصلاة، باب الصلاة في الثوب الواحد ملتحفا به، برقم (357).
  3. أخرجه البخاري، كتاب الصوم، باب صيام أيام البيض: ثلاث عشرة وأربع عشرة وخمس عشرة، برقم (1981)، ومسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب استحباب صلاة الضحى، وأن أقلها ركعتان، وأكملها ثمان ركعات، وأوسطها أربع ركعات، أو ست، والحث على المحافظة عليها، برقم (721).
  4. أخرجه البخاري، كتاب الصلاة، باب الخوخة والممر في المسجد، برقم (467)، ومسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب النهي عن بناء المساجد، على القبور واتخاذ الصور فيها والنهي عن اتخاذ القبور مساجد، برقم (532).
  5. أخرجه أبو داود في سننه، كتاب الصلاة، باب في الاستغفار، برقم (1531)، وقال محققه: صحيح.
  6. انظر: المجموع شرح المهذب، للنووي (4/14).
  7. أخرجه مسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب استحباب صلاة الضحى، وأن أقلها ركعتان، وأكملها ثمان ركعات، وأوسطها أربع ركعات، أو ست، والحث على المحافظة عليها، برقم (720).
  8. أخرجه مسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب استحباب صلاة الضحى، وأن أقلها ركعتان، وأكملها ثمان ركعات، وأوسطها أربع ركعات، أو ست، والحث على المحافظة عليها، برقم (719).
  9. انظر: شرح النووي على مسلم، للنووي (5/228).
  10. أخرجه أحمد في مسنده، برقم (17391)، وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم (1912).
  11. أخرجه البخاري، كتاب الصلاة، باب الصلاة في الثوب الواحد ملتحفا به، برقم (357)، ومسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب استحباب صلاة الضحى، وأن أقلها ركعتان، وأكملها ثمان ركعات، وأوسطها أربع ركعات، أو ست، والحث على المحافظة عليها، برقم (719).

مواد ذات صلة