الثلاثاء 17 / جمادى الأولى / 1446 - 19 / نوفمبر 2024
حديث «تسحروا فإن في السحور بركة» إلى «فصل ما بين صيامنا وصيام أهل الكتاب..»
مرات الإستماع: 0

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فهذا باب فضل السحور، وتأخيره ما لم يخش طلوع الفجر، السحور معروف، وهو ما يؤكل في السحر، سمي باعتبار الوقت الذي يؤكل فيه، والسحر يكون في آخر الليل، في جزئه الأخير، فالليل أجزاء، فهو أثلاث، الثلث الأول، الثلث الأوسط، الثلث الأخير، وهو جزء من الثلث الأخير، قبل الفجر.

عن أنس قال: قال رسول الله ﷺ: تسحروا فإن في السحور بركة[1] متفق عليه، تسحروا هذا أمر، وهو محمول هنا على الاستحباب، ثم ذكر علته، قال: فإن في السحور بركة ضبطه بعضهم بالفتح، السَّحور، والسَّحور بالفتح هو ما يؤكل، يقال له: سَحور، وأما السُّحور بالضم فهو نفس الأكل، يعني العملية يقال لها: سُحور، والأكلة ما يؤكل يقال له: سَحور، كما يقال مثلاً في الوُضوء، والوَضوء الوَضوء هو الماء الذي يتوضأ به، والوُضوء هو نفس العملية؛ يقال لها: وُضوء، فهنا بعضهم ضبطه بالفتح، فإن في السَّحور بركة، يعني الطعام الذي يؤكل في ذلك الوقت، هذا أخبر عنه الشارع، وهو أيضًا يكون في وقت شريف، وكذلك أيضًا إنما يأكله من أجل أن يتقوى به على العبادة، على الصيام، ومن هذه البركة أن الإنسان قد يأكل منه الشيء القليل اليسير، يعني أدنى ما يصدق عليه من الطعام، ويحصل له بسبب ذلك الاكتفاء، والقوة على الصيام، وقد يأكل الإنسان كثيرًا طعامًا غير مبارك، ثم يجوع بعده بوقت يسير، يشعر بجوع، والحاجة إلى الأكل مرة أخرى.

فهنا أخبرنا النبي ﷺ أن السَّحور أو السُّحور أنه بركة، ثم ذكر حديث زيد بن ثابت قال: "تسحرنا مع رسول الله ﷺ ثم قمنا إلى الصلاة، قيل: كم بينهما؟ قال: قدر خمسين آية" [2] متفق عليه.

تسحروا مع النبي ﷺ ثم قاموا إلى الصلاة هذا يستدل به على التأخير، أن يؤخر الإنسان السحور إلى آخر جزء من الليل، بحيث لا يبقى بينه، وبين صلاة الفجر إلا الوقت اليسير، فهنا تسحروا مع النبي ﷺ ثم قاموا إلى الصلاة، كم كان بينهما؟

قدر خمسين آية، التقديرات أحيانًا تكون بمثل هذا، قدر خمسين آية، والمقصود بذلك الآيات المتوسطة، يعني ليست الآيات الطويلة، كآيات سورة المائدة، ولا الآيات القصيرة، كآيات سورة الرحمن مثلاً، أو بعض قصار السور، وإنما الآيات المتوسطة، مثل آيات سورة الإسراء، والكهف، ومريم، والأنبياء، وطه، ونحو ذلك فهذه متوسطة، قدر خمسين آية، فاحسب كم يستغرق في القراءة المعتدلة، ليست القراءة السريعة، ولا القراءة البطيئة، القراءة المعتدلة، إذا قرأ من هذه الآيات خمسين آية؛ فتستطيع أن تعرف ما بين السحور، وإقامة الصلاة، المقصود أنه يؤخره، يعني ما يستحر الساعة واحدة بالليل، أو الساعة ثنتين بالليل، هذا خلاف السنة، لكن إذا كان أكله يسيرًا خفيفًا؛ فإنه يبدأ سحوره قبل الأذان بنحو عشر دقائق، أو نحو هذا.

المقصود أن يؤخره، يجعله آخرًا، لكن لا يعرض العبادة أيضًا لما يبطلها، بعض الناس يبدأ يتسحر إذا سمعه يؤذن، والإنسان ينبغي أن يحتاط للعبادة، وإذا سمع الأذان يتوقف، والتقدير هنا بخمسين آية، السلف أحيانًا، والعرب من عادتهم يقدرون أحيانًا بحلب شاة، قدر حلب شاة، وأحيانًا يقدرون بنحر جزور، وتقطيع أجزائها، مثل قدر ما يبقى عند القبر يدعو للميت، قدر ما تنحر جزور، وتفصل، وتقطع، وأحيانًا بقدر ما تطبخ أيضًا، مثل الوقت ما بين صلاة العصر، يعني متى ينتهي وقت الاختيار في صلاة العصر، والشمس بيضاء نقية، ما لم تصفر، فيدخل وقت الاضطرار، فكم الوقت؟

الوقت يصل إلى هذا، نحر جزور، وتقطيعها، وطبخها لكن هذا لمن يحسن، لمن يجيد هذه، وإلا أحيانًا بعض الناس نحر الجزور لوحده قد يستغرق منه ساعة؛ لأنه ليس من أهل الصنعة، وأحيانًا تقدر هذه الأشياء بالوقت، وأحيانًا تقدر بالمسافات، بالأميال، فتقديرات العرب مختلفة على كل حال.

وعن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: كان لرسول الله ﷺ مؤذنان: بلال، وابن أم مكتوم، يعني في ذلك الوقت، أو في المدينة، وإلا فالمؤذنون لرسول الله ﷺ أكثر من هذا، أبو محذورة في مكة، كان له مؤذن في قباء، فالذين أذنوا للنبي ﷺ عدد، لكن المشاهير في المدينة: بلال، وابن أم مكتوم، فقال رسول الله ﷺ: إن بلالاً يؤذن بليل يعني ما نسميه نحن الأذان الأول فكلوا، واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم قال: ولم يكن بينهما إلا أن ينزل هذا، ويرقى هذا [3] متفق عليه.

طبعًا هو يؤذن فوق سطح المسجد، ما كان في منارة، ولا مكبرات صوت، هو بالسطح، فكون هذا يطلع، وهذا ينزل معناه ما بين الأذان الأول والثاني إلا وقت يسير، دقائق، لكن أهل العلم منهم من فسره بغير ذلك، قالوا: بأن بلالاً حينما يرقى؛ يؤذن بليل، ثم بعد ذلك يبدأ يرقب الفجر، فإذا طلع الفجر نزل، فأخبر ابن أم مكتوم؛ لأنه أعمى، فيطلع ابن أم مكتوم فيؤذن للفجر، وأن المعنى ليس أنه بمجرد ما يؤذن ينزل، فيؤذن الآخر، فما الفائدة إذًا لما بين الأذانين، يعني ما يكفي الواحد يتسحر، أو من أراد أن يتهيأ للصلاة يغتسل، أو نحو ذلك، فالوقت ضيق جدًا.

وبالمناسبة كثير من الناس هذه الأيام يسألون، يقولون: أدركني الصبح، الفجر يعني، وأنا لم أغتسل من الجنابة، فلا علاقة بين الصيام، وغسل الجنابة، الصيام ما له علاقة بموضوع الطهارة، يمكن للإنسان أن يصبح جنبًا، وصومه صحيح، ويدل على هذا وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ فيجوز للإنسان أن يتعاطى المفطرات، ومنها الجماع إلى آخر جزء من الليل، فإذا فعل ذلك، فمعناه الاغتسال متى سيكون؟

بعد طلوع الفجر، فلا يؤثر ذلك في الصوم، بالإضافة إلى أن النبي ﷺ كان يصبح جنبًا من غير احتلام، وهو صائم -عليه الصلاة والسلام- [4] فكلوا، واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم معناه أن الأذان علامة، فإذا عرف أن المؤذن يؤذن على الوقت؛ فمعنى ذلك أنه يتوقف إذا سمع الأذان؛ لأن قوله: كلوا واشربوا حتى يؤذن حتى للغاية، وفي بعض صورها أن المغي يعني الذي ذكرت الغاية إليه، يدخل فيها، وفي بعض صورها لا يدخل، وهنا لا يدخل، تقول مثلاً: أبيعك هذه الأرض إلى دار فلان، هل دار فلان داخلة فيها، الأرض التي بعتك؟

الجواب: لا، فالمغي هنا غير داخل، لكن حينما يقول الله : فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ فاليد من أطراف الأصابع إلى المنكب، هذه اليد إذا أطلقت، فحينما يحددها بشيء لو لم يحددها فيه؛ فإنها قد تتجاوز ذلك، هو داخل فيها في مسماها أصلاً، فإنه يدخل فيها، فيجب غسل المرافق، هذا الفرق بين الحالتين.

ثم ذكر الحديث الأخير في الباب، وهو حديث عمرو بن العاص أن رسول الله ﷺ قال: فصل ما بين صيامنا وصيام أهل الكتاب أكلة السحر[5] رواه مسلم، فصل يعني الفاصل، الفارق بين صومنا وصوم أهل الكتاب، ونحن نهينا عن التشبه بهم، أمرنا بمخالفتهم، فمما تحصل به المخالفة في الصيام: أن الإنسان يتسحر، فهم لا يتسحرون، وقد مضى الكلام في آيات الصيام على ما ذكر في صفة صومهم، فهم مثلاً في أول الصيام كان الواحد يأكل، ويشرب إذا أفطر إلى العشاء ما لم ينم، فإن نام؛ فإنه لا يجوز له أن يأكل بعد ذلك، معناه أنه لا يتسحر أصلاً، الأكل والشرب رخص فيه من المغرب إلى العشاء، فكثير من أهل العلم يقول: هكذا صفة صوم أهل الكتاب حينما فرض عليهم الصوم، طبعًا حرفوا فيه، وغيروا كثيرًا، في صفته، وأيامه، ونوع الطعام، وكذا، صاروا يصومون عن أشياء معينة من المطعومات، فالشاهد: أن أكلة السحر هذه من يخالف فيه أهل الكتاب، ويحصل التميز عنهم.

وفي الباب أحاديث لم يذكرها المؤلف أحاديث صحيحة، يكفي منها قول النبي ﷺ: إن الله، وملائكته يصلون على المتسحرين[6] هذا حديث صحيح إن الله، وملائكته يصلون على المتسحرين هذا فضل عظيم، على عمل يسير، فيكون الإنسان ولو أنه يحسو حسوات من ماء، يشرب ماء، فإن هذا يصدق عليه أنه سحور، والماء يعتبر طعام؛ لأن الله قال في قصة بني إسرائيل: إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فشرب الماء قيل له: طعام، يطعمه، والله تعالى أعلم، وصلى الله على نبينا محمد.

  1. أخرجه البخاري، كتاب الصوم، باب بركة السحور من غير إيجاب، برقم (1923)، ومسلم، كتاب الصيام، باب فضل السحور وتأكيد استحبابه، واستحباب تأخيره وتعجيل الفطر، برقم (1095).
  2. أخرجه البخاري، كتاب الصوم، باب: قدر كم بين السحور وصلاة الفجر، برقم (1921)، ومسلم، كتاب الصيام، باب فضل السحور وتأكيد استحبابه، واستحباب تأخيره وتعجيل الفطر، برقم (1097).
  3. أخرجه البخاري، كتاب الأذان، باب الأذان قبل الفجر، برقم (622)، ومسلم، كتاب الصيام، باب بيان أن الدخول في الصوم يحصل بطلوع الفجر، وأن له الأكل وغيره حتى يطلع الفجر، وبيان صفة الفجر الذي تتعلق به الأحكام من الدخول في الصوم، ودخول وقت صلاة الصبح وغير ذلك، برقم (1092).
  4. أخرجه النسائي في سننه، كتاب الطهارة، باب ترك الوضوء مما غيرت النار، برقم (183)، وصححه الألباني في التعليقات الحسان، برقم (3480).
  5. أخرجه مسلم، كتاب الصيام، باب فضل السحور وتأكيد استحبابه، واستحباب تأخيره وتعجيل الفطر، برقم (1096).
  6. أخرجه أحمد في مسنده، برقم (11086)، وحسنه الألباني في صحيح الجامع، برقم (3679).

مواد ذات صلة