الثلاثاء 17 / جمادى الأولى / 1446 - 19 / نوفمبر 2024
حديث «ما يجد الشهيد من مس القتل..» إلى «ثنتان لا تردان..»
مرات الإستماع: 0

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فمما أورده المصنف -رحمه الله- في باب فضل الجهاد ما جاء عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: ما يجد الشهيد من مس القتل إلا كما يجد أحدكم من مس القرصة[1] رواه الترمذي، وقال: حديث حسن صحيح.

ما يجد الشهيد من مس القتل: هذا مقيد بالشهيد، والشهيد عرفنا أنه من قتل في قتال يقصد به إعلاء كلمة الله -تبارك وتعالى- وذلك تخفيف عنه، ولا يعني هذا بحال من الأحوال أن كل من يقتل أنه لا يجد من ألم القتل إلا ما يجده أحدنا من ألم القرصة، وإنما ذلك خاص بالشهداء، فيهون ذلك عليهم.

وقوله ﷺ: إلا كما يجد أحدكم من مس القرصة المقصود به القرصة التي لا يكون منها إلا الألم اليسير، كقرصة النملة والبقة، وما أشبه ذلك، ولا يذهب الذهن بعيدًا إلى قرص أمور لربما يكون فيها هلاك الإنسان، ونحو ذلك، لا، وإنما ذكر النبي ﷺ مثل هذا على سبيل بيان خفة ما يجد، وسهولة ما يجد، ولهذا حمله أهل العلم على هذا المعنى، قرصة النملة، ونحوها، وهو شيء يسير، يحتمله الصغير والكبير.

ثم ذكر حديث عبد الله بن أبي أوفى -رضي الله عنهما- "أن رسول الله ﷺ في بعض أيامه التي لقى فيها العدو انتظر حتى مالت الشمس، ثم قام في الناس، فقال: أيها الناس لا تتمنوا لقاء العدو، وسلوا الله العافية فإذا لقيتموهم؛ فاصبروا، واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف ثم قال: اللهم منزل الكتاب، ومجري السحاب، وهازم الأحزاب، اهزمهم وانصرنا عليهم"[2] متفق عليه.

"انتظر حتى مالت الشمس": يعني بعد الزوال، لماذا فعل ذلك؟ من أهل العلم من يقول: إنه فعل ذلك من باب التفاؤل، بتحول الحال، الشمس تتحول من جهة إلى جهة، ففعل ذلك تيمنًا وتفاؤلاً بتحول الكفة، فيصير إلى نصر وغلبة لهؤلاء الأعداء، هذا احتمال، ويحتمل أمرًا آخر، وهو أن القتال بعد الزوال يستقبل فيه حالاً أفضل من برودة الهواء؛ لأن الهواء لا يزال إلى برودة، إلى الليل، فالحر يتناقص فيه، أما إذا كان في أول النهار؛ فإن الحر يكون إلى زيادة، ثم بعد ذلك يشتد في وسط النهار، ثم بعد ذلك يبدأ يتناقص، فيدركهم أشد الحرّ أثناء الزوال، وقبله وبعده، لكنه إذا بدأ بعد الزوال؛ فهو مقبل على حال أفضل من جهة الهواء، هذا احتمال، والله تعالى أعلم.

ثم قام في الناس فقال: أيها الناس لا تتمنوا لقاء العدو، وسلوا الله العافية فيه مشروعية التذكير قبل لقاء العدو، قبل القتال؛ فالنبي ﷺ يقول: لا تتمنوا لقاء العدو لماذا قال لهم: لا تتمنوا لقاء العدو؟ من أهل العلم من يقول: لأن تمني لقاء العدو ينبئ عن الزهو والتعاظم والغرور والثقة بالنفس، ومنهم من يقول: بأن ذلك من أجل أن الإنسان قد يعزم على الصبر، ولا يصبر، كما أشرت في بعض المناسبات السابقة، وذكرت لهذا أمثلة كما وقع لبني إسرائيل حينما قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا.

فالشاهد: أنهم تساقطوا عند كل ابتلاء، فكثير من الناس يعزم على الصبر، ولكنه لا يصبر، وكثير من الناس يتخيل أنه لو كان في منزلة فلان الذي أخبره الطبيب، أنه نزل به بلاء، أو مرض خطير، واكتشف ذلك في بعض التحاليل، فجزع ذاك الإنسان، وأصابه من الهلع والانكسار، فربما يقول الإنسان في نفسه: لو كنت مكانه لم أبال، ولم أكترث بذلك، وليس لي سوى اختيار الله ولكنه لو كان فعلا مكانه؛ فقد لا يصبر.

وقد ذكرت هذا المعنى في الكلام على الأعمال القلبية، في الكلام على الصبر، وذكرت فيه كلام شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- وهذا حاصله من أن الكثيرين لربما يعزم الواحد منهم على الصبر، ولكنه لا يصبر، فكثير من الناس قد يتصور أنه لو كان في وقعة الأحزاب، حينما قال النبي ﷺ: من يأتيني بخبر القوم؟ ما قام أحد، ثم ضمن له النبي ﷺ العودة يرجع سالمًا، وفيهم أبو بكر، وعمر -رضي الله عنهم- أجمعين، وما قام أحد، ثم قال: وأضمن له الجنة فما قام أحد، ثم قال: ويكون رفيقي في الجنّة[3] وما قام أحد.

نحن طبعا نتصور أنه لو قالها النبي ﷺ من غير أن يضمن عودة، ولا يضمن جنّة لتسابقنا وبادرنا، وقلنا: وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى لكن إذا نظر الإنسان هؤلاء فيهم أبو بكر وعمر فيهم كبار الصحابة، وما قام أحد مع هذه الوعود جميعًا، فهذا يدل على أننا لو كنا معهم، فيخشى الإنسان لو قال له النبي ﷺ: قم يا فلان، أنه قد لا تحمله أقدامه على القيام؛ من شدة ما أصاب الناس من الخوف، كما قال الله : وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ فلما قال النبي ﷺ لحذيفة: قم يا حذيفة[4] يقول: فلم أجد بدًا، الآن أمر؛ فتعين عليه.

فالشاهد: أن النبي ﷺ قال: لا تتمنوا لقاء العدو ومثل هذا يقال أيضًا في تمني الابتلاء، بعض الناس يتمنى الابتلاء، أو يتمنى أن يصيبه مرض عضال، مرض خطير، أو نحو ذلك، يقول: رفعة درجات، وتكفير للسيئات، وما يدريك، وكثير من الناس ينكسر، وبعضهم لربما يفتن في دينه، ويتراجع، ويرتد، وينكص على عقبيه، كما قال الله : وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ.

وسلوا الله العافية العافية لا يعدلها شيء، وهي السلامة في الدين والدنيا؛ لأن الإنسان قد يبتلى وينكشف ذلك البلاء عن أمور غير محمودة، والإنسان يسأل ربه العافية، ولهذا لا يتمنى وقوع الحروب والفتن، وما إلى ذلك، فقد يصير إلى حال يفقد فيها دينه ويفتن، فنسأل الله -تبارك وتعالى- لنا ولكم العافية في الدين والدنيا والآخرة.

قال: فإذا لقيتموهم فاصبروا فهذا هو المتعين أن يثبت الناس، ولا يحصل منهم خور وتراجع أمام عدوهم، أو حين الابتلاء، والصبر لا بدّ منه، ما منه بد.

قال: واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف وقد سبق الكلام على هذا المعنى، وهو أن المراد -والله أعلم- أن الجنة تحت ظلال السيوف لما يرفع هؤلاء سيوفهم، وهؤلاء سيوفهم، ويدنو هؤلاء من هؤلاء، ويلتحم المقاتلون فالجنة تحت ظلال السيوف، فالذين يتقاتلون مقبلين، غير مدبرين، هؤلاء يدخلون الجنة، وما بينهم وبين دخولها إلا أن يقتلهم هؤلاء الكفار.

ثم قال يدعو عليهم: اللهم منزل الكتاب يحتمل أن يكون جنس الكتب السماوية، ويحتمل أن يكون القرآن ومجري السحاب فهو الذي يصرفه، وهذا دليل على كمال القدرة وهازم الأحزاب أل هذه يحتمل أن تكون للعهد، الأحزاب الذين جاؤوا إلى المدينة، كما قص الله خبرهم في سورة الأحزاب، ويحتمل أن يكون ذلك يراد به أحزاب الكفار على مدى القرون المتطاولة، حيث أهلكهم الله وهزمهم، ولا يختص بمن جاؤوا في غزوة الخندق، قال: اهزمهم، وانصرنا عليهم متفق عليه.

ثم بعد ذلك ذكر حديث سهل بن سعد قال: قال رسول الله ﷺ: ثنتان لا تردان، أو قلما تردان، الدعاء عند النداء، وعند البأس حين يلحم بعضهم بعضًا[5].

ثنتان لا تردان الدعاء عند النداء هذا يدل على أن ذلك أحد مواطن الإجابة عند النداء يعني هذا غير بين الأذان والإقامة، فعند النداء يدعو عند النداء وعند البأس حين يلحم بعضهم بعضًا عند الاشتباك مع العدو، فالدعاء عندئذ يستجاب، وهذا ليس للحصر ثنتان لا تردان وإنما ذلك بيان لموطنين من مواطن إجابة الدعاء، وإلا فإن النبي ﷺ بين مواطن أخرى في أحاديث متنوعة، فيتحرى الإنسان مثل ذلك، فإذا كان عند الأذان يدعو، ولذلك نقول: بعد الأذان: اللهم رب هذه الدعوة التامة، والصلاة القائمة[6] إلى آخره.

على كل حال يكفي هذا القدر، والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه.

  1. أخرجه الترمذي في سننه، كتاب أبواب فضائل الجهاد، باب ما جاء في فضل المرابط، برقم (1668)، وحسنه الألباني في صحيح الجامع، برقم (5811).
  2. أخرجه البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب كان النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا لم يقاتل أول النهار أخر القتال حتى تزول الشمس، برقم (2965)، ومسلم، كتاب الجهاد والسير، باب كراهة تمني لقاء العدو، والأمر بالصبر عند اللقاء، برقم (1742).
  3. انظر: سبل السلام من صحيح سيرة خير الأنام عليه الصلاة والسلام، لصالح بن طه عبد الواحد (1/429).
  4. أخرجه مسلم، كتاب الجهاد والسير، باب غزوة الأحزاب، برقم (1788).
  5. أخرجه أبو داود في سننه، كتاب الجهاد، باب الدعاء عند اللقاء، برقم (2540)، وصححه الألباني في مشكاة المصابيح، برقم (672).
  6. أخرجه البخاري، كتاب الأذان، باب الدعاء عند النداء، برقم (614).

مواد ذات صلة