الثلاثاء 17 / جمادى الأولى / 1446 - 19 / نوفمبر 2024
حديث «إذا تشهد أحدكم فليستعذ بالله من أربع..»
مرات الإستماع: 0

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعدُ:

ففي "باب فضل الذكر، وما يتصل منه بما يقال قبل السلام" ما رواه أبو هريرة أن رسول الله ﷺ قال: إذا تشهد أحدكم فليستعذ بالله من أربع، يقول: اللهم إني أعوذ بك من عذاب جهنم، ومن عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات، ومن شر فتنة المسيح الدجال[1]، رواه مسلم.

قوله ﷺ: إذا تشهد أحدكم التشهد معروف، وقيل له ذلك لما فيه من قول: أشهد أن لا إله إلا الله، والمقصود بذلك إنه يقوله بعد التشهد والصلاة على النبي ﷺ، فإذا فرغ من ذلك قبل أن يسلم يستعيذ من هذه الأربع.

وقوله ﷺ هنا: فليستعذ اللام هذه لام الأمر؛ لأن الأمر يأتي بصيغته الصريحة مثل: افعل، أو يدل عليه اللام -لام الأمر- لتفعل كذا، فهذه صيغ صريحة، والأصل أن الأمر يفيد الوجوب، وقد أخذ بعض أهل العلم من هذا الحديث أنه يجب الاستعاذة من هذه الأربع بعد التشهد، فيكون ذلك قبل السلام بعد الصلاة على النبي ﷺ يتسعيذ من هذه الأربع.

وهذه الأربع هي:

الأولى: وهي أعظمها وأكثرها هولاً اللهم إني أعوذ بك من عذاب جهنم وجهنم -أعاذنا الله وإياكم ووالدينا وإخواننا المسلمين منها- اسم من أسماء النار، تكلم فيه بعضهم فقيل: إن أصله غير عربي، وقيل غير ذلك، ولا دليل على هذا، فهو اسم من أسمائه، وقد جاء عن النبي ﷺ أنه قال: إذا انصرفت من صلاة المغرب فقل: اللهم أجرني من النار سبع مرات، فإنك إذا قلت ذلك ثم مت في ليلتك كتب لك جوار منها، وإذا صليت الصبح فقل كذلك، فإنك إن مت في يومك كتب لك جوار منها[2]، فإذا كان الإنسان يقوله في الصلاة فهذا أبلغ، فإذا قيل ذلك في صلاة الفريضة فهذه خمس، فإذا قاله في النافلة؛ لأن ظاهر الحديث العموم إذا تشهد أحدكم فليستعذ بالله من أربع فهذا يدخل فيه صلاة النافلة، وصلاة الفريضة، فهذا يعني أنه كم مرة يستعيذ المسلم بالله من النار؟ مع أن من استجار منها ثلاثًا في يوم واحد قالت النار: اللهم إن عبدك فلان قد استجار مني فأجره من النار، كما أنه من سأل الله الجنة ثلاثًا تقول الجنة: اللهم إن عبدك فلان قد سألك الجنة، فأدخله الجنة، وفي رواية سبعًا[3].

فأقول مثل هذا في الصلاة أبلغ؛ لأن الدعاء في الصلاة لا شك أنه أدعى للإجابة، وكما جاء عن النبي ﷺ في آخر التشهد في المصلي ثم يتخير من الدعاء أعجبه إليه[4]، فهذا محل للدعاء، ويمكن للإنسان أن يدعو بعده بما شاء من خيري الدنيا والآخرة.

اللهم إني أعوذ بك من عذاب جهنم، ومن عذاب القبر)) فهذا دونه، وهذه الأمة كما ثبت عن النبي ﷺ تفتن في قبورها، وعذاب القبر ثابت، وأحاديثه متواترة، ومما يدل عليه من القرآن قول الله -تبارك وتعالى- عن آل فرعون: النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ [غافر: 46] فمتى يعرضون عليها غدوًا وعشيًا؟ في القبر في البرزخ، وهكذا استدل بعض أهل العلم بمثل قوله -تبارك وتعالى-: وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذَابًا دُونَ ذَلِكَ [الطور:47] ففسر بعذاب القبر، والعذاب الأكبر هو عذاب جهنم، نسأل الله أن يعيذنا وإياكم منها، ومن عذاب القبر.

وفي الحديث مر رسول الله ﷺ بقبرين، فقال: يعذبان، وما يعذبان في كبير ثم قال: بلى، كان أحدهما لا يستتر من بوله، وكان الآخر يمشي بالنميمة[5]، وفي رواية: لا يستتر من بوله[6].

وعلى كل حال يستعيذ المسلم دائمًا من عذاب القبر؛ لأن القبر إما روضة من رياض الجنة، وإما حفرة من حفر النار، وهو أول منازل الآخرة[7]، وإذا وضع الإنسان في قبره عاين الحقائق، وعرف مصيره ومآله، وانكشفت عنه حجب الغيب فيما يتصل بالجنة والنار والمآل والمصير والحياة الأبدية السرمدية، ويرى ملائكة الرحمة، أو ملائكة العذاب، ويفتح له نافذة إلى منزله في الجنة، أو إلى منزله في النار، فيأتيه من النعيم، أو من العذاب.

قال: ومن فتنة المحيا والممات فتنة المحيا ما هي؟ فتنة هذه الحياة فتنة المال، وفتنة الولد، إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ [التغابن: 15] وهكذا أيضًا ألوان ما يحصل من الفتن للناس في هذه الحياة الدنيا، وهي أنواع منها ما لا بد له منه، كما قال الله : إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ [التغابن: 15] ومنها: ما يكون من مضلات الفتن؛ ولهذا جاء عن بعض السلف كابن مسعود - في الاستعاذة أن الإنسان يستعيذ بالله من مضلات الفتن؛ لأنه لو قال: اللهم إني أعوذ  بك من الفتن، يدخل في ذلك الأهل والمال، مع أنه لا بأس بذلك، وقد جاء في النصوص ما يدل على هذا العموم، ويمكن أن يكون من قبيل العام المراد به الخصوص، لا إشكال في هذا، ولا ينكر على من قال: اللهم إني أعوذ بك من الفتن، يعني: من غير تقييد بمضلات الفتن، وإن ورد التقييد عن بعض السلف، فعلى كل حال فتنة المحيا تشمل هذا كله، كل ما يحصل من فتن عامة، ومن فتن خاصة؛ لأن العافية لا يعدلها شيء، والإنسان قد يفتن ولا يصبر، وقد تكون فتنته بمرض، وقد تكون فتنته بغنى، وقد تكون فتنته بفقر، وقد تكون فتنته بولد، وقد تكون فتنته بزوجة، إلى غير ذلك من ألوان الفتن التي لا يحصيها إلا الله ، ومنها: ما يكون ظاهرًا، ومنها ما يكون خفيًا، ومنها ما يكون الحق فيه متضحًا جليًا، ومنها ما يكون ملتبسًا.

وأما فتنة الممات، فإن ذلك يصدق على فتنة الملكين، سؤال الملكين من ربك؟ وما دينك؟ ومن هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ فهذه فتنة عظيمة إن هذه الأمة تفتن في قبورها[8] قريبًا من فتنة الدجال، وبعد هذه الفتنة والمحنة هناك يحصل دلائل وأمارات الفوز الأكبر؛ لأنه -نسأل الله العافية- إذا قال: هاه هاه، يعني: لم يفلح في هذا السؤال، وما أجاب عنه، فإنه يضرب بمرزبة من حديد، يصيح صيحة يسمعه كل شيء إلا الإنس والجن، وثم بعد ذلك -نسأل الله العافية- يمهد له قبره من نار، ويفتح له نافذة في القبر إلى النار، ويعذب في هذا القبر، وإذا أجاب وذلك للمؤمن، فإنه ينام نوم العروس، لا يوقظه إلا أحب أهله إليه، ويوسع له في قبره مد البصر، وينور له في هذا القبر، ويكون روضة من رياض الجنة، فالمؤمن يقول: اللهم أقم الساعة، اللهم أقم الساعة؛ لما يرى من النعيم الكبير بعد هذه المرحلة، وأما الكافر فيقول: ربي لا تقم الساعة، مع أنه يعذب، ربي لا تقم الساعة، ربي لا تقم الساعة[9]؛ لأنه سيصير إلى هول وأمور أشد مما هو فيه، فهذه الحياة -أيها الأحبة- مراحل، كنا عدمًا، فخلقنا الله فهو قادر على إعادتنا من جديد، وكنا في بطون أمهاتنا نطفًا، ثم علقة قطعة دم جامدة تعلق بالرحم، ثم مضغة، ثم خلقها الله وخلق العظام، وكساها لحمًا، وكان الإنسان كما ترون في قبره له يد ورجل وعينان وأذنان وأنف ورئة، وهو في بطن أمه، مع أنه لا يحتاج إلى شيء من ذلك، هو لا يأكل في بطن أمه، ولا يمشي، ولا يبطش بيده، ولا يرى بعينه، وإنما ذلك مهيأ للمرحلة التي بعدها إذا خرج سيحتاج الرجل واليد، والعين، والأذن، والشم والرئة ليتنفس الهواء ، وما أشبه ذلك، فهي كانت في بطن أمه لمرحلة بعدها، ونحن في هذه الحياة عندنا أمور وآمال وتطلعات لا يمكن أن توفى في هذه الحياة الدنيا، ومهما أعطي الإنسان من الدنيا، فإن ذلك لا يسد جوعته، ولا يشبع نهمته، فهناك دار أخرى يكون فيها بلوغ الآمال الكاملة، والنعيم الكامل، واللذات الكاملة، التي لا تنغيص فيها، ولا تكدير، نعيم كامل، هذه الحياة قصيرة هي مرحلة، كما كنا في بطون أمهاتنا، وانتقلنا إلى هذه الحياة، دار الكبد والنكد والكدر، والله قال لآدم لما حذره من إبليس: فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى [طه: 117] تشقى هذا الشقاء هو الذي نعيشه الآن حر الشمس، وبرد الشتاء، والكد في طلب الرزق، والمصائب التي تحصل للإنسان، والتعب والهموم، والآلام إلى غير ذلك، فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى [طه: 117] يشقى في لقمة العيش حتى يحصلها، وترى الإنسان كلما يكبر كلما يتقدم به السن يبدأ بياض العين يصفر من كثرة الهموم، كما يقول الأطباء، والطفل الصغير من نعومة أظفاره عيونه صافية بيضاء، فكلما يكبر كلما تزداد صفرة، وتبدأ خطوط الوجه والتجاعيد، وآثار الهموم، وآثار النكد في الوجه مرسومة مما يعانيه الإنسان، هذا أمر مشاهد.

فعلى كل حال هنا يقول: ومن عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات، ومن شر فتنة المسيح الدجال المسيح قيل له ذلك قيل: لأنه ممسوح العين، وقيل: إنه مسيح لأنه يمسح الأرض، يطوفها سوى مكة والمدينة، فإنه لا يتمكن من دخولهما، وقيل غير ذلك في سبب تسميته بالمسيح.

أما عيسى فيقال له: المسيح لأنه يمسح على ذي العاهة، فيبرأ بإذن الله ، وقيل غير ذلك، فشتان بين المسيح عيسى ، وبين المسيح الدجال، والدجال صيغة مبالغة على وزن فعال، يعني: كثير الدجل، والدّجل: هو الكذب والإفك الظاهر، فهو كثير الكذب، وكثير الإفك، يدعي الألوهية، ويدعي الربوبية، وفتنته عظيمة جدًا، يأتي على القوم ممحلين، ثم بعد ذلك يدعوهم، فإن استجابوا له أمطرت السماء، وأخرجت الأرض بهجتها، وعادت إليهم سارحتهم ودوابهم وبهائمهم ممتدة الخواصر، ممتلئة الضروع بالألبان، ونحو ذلك، وإذا عصوه وكفروا به أمحلوا، ويمر على الخربة؛ المناطق الخراب، والقرى المهجورة؛ فيقول: أخرجي كنوزك، فتتبعه كنوزها، كيعاسيب النحل[10]، الذهب والدنانير التي في الخرايب والتي دفنها أهلها، وماتوا تتبعه، كيعاسيب النحل ففتنته عظيمة جدًا، فإذا كان الناس اليوم يفتنون بما هو دون ذلك، فكيف بفتنة المسيح الدجال، انظروا كيف تفعل اليوم بعض وسائل الإعلام في الناس، والفضائيات، وانظر الدعايات، وانظر كيف يصيح الشيطان في شرق الأرض، أو غربها، ثم يتهافت كثير من الخلق على تتبع هذا، والأخذ به من صيحات وموضات وصرعات وأشياء وألبسة منكرة، وشعور منكرة، وهيئات منكرة لما ترى إنسانًا أحيانًا تقول: هذا يصلح للناس الذين لا خلاق لهم في بلاد الغرب، وللمنبوذين، ويصلح هذا اللباس وهذا الشعر وهذه الهيئة للناس الذين يعيشون على الأرصفة، وتحت الكباري في البلاد الغربية، لكن مسلم عرف الله، وعرف الدار الآخرة، يكون بهذه الهيئة، هذا لا يمكن، طيب إذا جاء الدجال وبهذه المثابة، طيب هؤلاء الذين الآن في بعض القنوات يدعي أنه يعالج وأنه يعالج من السحر، أو نحو  ذلك، أعني بعض الكذابين، ويصف لهم وصفات وأشياء وأمور كذب، ولربما يعبر لهم أشياء، ويدعي أنه يعالج بالطب البديل، ويفسر ويعبر لهم الرؤى، ويقول لهم على الملأ: أنتِ مسحورة ماذا ترين؟ ضعي يدك هنا، ماذا تتخيلين؟ تتخيل واحدة سمراء طويلة، واحدة قصيرة ممتلئة كذا، إذًا هم هؤلاء الذين عانوك، وهم الذين أصابوك بكذا، وهم الذين عملوا لك السحر، وأشياء ويصدقها الناس، وتتعب حتى تستخرج هذا من عقولهم، وتقول لهم: هذا الكلام غير صحيح، ولكن كأنما تحاول محالاً، أو أمرًا ممتنعًا، فإذا طلع الدجال إذًا ماذا سيصنع كثير من الناس حينما يرون هذه الفتنة العظيمة به؟ هؤلاء الذين يتصلون بهؤلاء الذين يخبرونهم عن حظوظهم ومستقبلهم ومن سيتزوج؟ وكيف سيكون مستقبله؟ وكيف يصدق هؤلاء الدجالين والمنجمين والعرافين والكذابين؟ فإذا خرج الدجال وبدأ يظهر له هذه العجائب في هذه الفتنة العظيمة، كيف سيكون حال الإنسان؛ ولهذا نهى النبي ﷺ عن التعرض له، ولفتنته وقال: من سمع بالدجال فلينأ عنه، فوالله إن الرجل ليأتيه وهو يحسب أنه مؤمن فيتبعه، مما يبعث به من الشبهات، أو لما يبعث به من الشبهات[11]، الرجل يأتي وهو واثق من نفسه، ثم بعد ذلك يفتن، والله المستعان.

فالإنسان يستعيذ من هذه الأمور التي ذكرها النبي ﷺ، وكما قلت من أهل العلم من يقول: وجوبًا في آخر كل صلاة، وهذا يدل على أن هذه الأمور شديدة الخطر، عظيمة، تستحق أن المسلم يوليها عناية، بالاستعاذة بالله منها، ولا خلاص منها إلا بالاستعاذة، والجد والاجتهاد في التقرب إلى الله، والعمل الصالح.

هذا، والله تعالى أعلم.

وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.

  1. أخرجه مسلم في كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب ما يستعاذ منه في الصلاة برقم (588).
  2. أخرجه أبو داود في أبواب النوم، باب ما يقول إذا أصبح برقم (5079) وضعفه الألباني.
  3. أخرجه أبو داود في أبواب النوم، باب ما يقول إذا أصبح برقم (5079) وضعفه الألباني.
  4. أخرجه البخاري في كتاب الأذان، باب ما يتخير من الدعاء بعد التشهد وليس بواجب برقم (835).
  5. أخرجه البخاري في كتاب الوضوء، باب من الكبائر أن لا يستتر من بوله برقم (216) ومسلم في الطهارة، باب الدليل على نجاسة البول ووجوب الاستبراء منه برقم (292).
  6. أخرجه البخاري في كتاب الأدب، باب الغيبة برقم (6052) ومسلم في كتاب الطهارة، باب الدليل على نجاسة البول ووجوب الاستبراء منه برقم (292).
  7. أخرجه ابن ماجه في كتاب الزهد، باب ذكر القبر والبلى (4267) وحسنه الألباني.
  8. أخرجه الطحاوي في شرح مشكل الآثار برقم (5203).
  9. أخرجه أحمد ط الرسالة برقم (18534) وقال محققو المسند: "إسناده صحيح، رجاله رجال الصحيح".
  10. أخرجه مسلم في كتاب الفتن وأشراط الساعة، باب ذكر الدجال وصفته وما معه برقم (2937).
  11. أخرجه أبو داود في كتاب الملاحم، باب خروج الدجال برقم (4319) وصححه الألباني.

مواد ذات صلة