الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعدُ:
ففي باب فضل الذكر وحلق الذكر، أورد المصنف -رحمه الله- حديث أبي واقد الحارث بن عوف وقيل: عوف بن الحارث، وقيل: الحارث بن مالك، وقيل غير ذلك.
أن رسول الله ﷺ بينما هو جالس في المسجد، والناس معه؛ إذ أقبل ثلاثة نفر، فأقبل اثنان إلى رسول الله ﷺ، وذهب واحد، فوقفا على رسول الله ﷺ، فأما أحدهما فرأى فرجة في الحلقة، فجلس فيها، وأما الآخر فجلس خلفهم، وأما الثالث فأدبر ذاهبًا، فلما فرغ رسول الله ﷺ قال: ألا أخبركم عن النفر الثلاثة؟ أما أحدهم فأوى إلى الله، فآواه الله إليه، وأما الآخر فاستحيا فاستحيا الله منه، وأما الآخر فأعرض فأعرض الله عنه[1] متفق عليه.
"بينما هو جالس في المسجد والناس معه" يعني: يذكرهم ويعلمهم، فهذا من مجالس الذكر.
"إذ أقبل ثلاثة نفر" النفر يقال لما بين الثلاثة والتسعة.
"فأقبل اثنان إلى رسول الله ﷺ" يعني: إلى مجلسه.
"وذهب واحد، فوقفا على رسول الله ﷺ، فأما أحدهما فرأى فرجة في الحلقة، فجلس فيها" يعني: أنه اقترب ودنا.
"وأما الآخر فجلس خلفهم، وأما الثالث فأدبر ذاهبًا، فلما فرغ رسول الله ﷺ قال: ألا أخبركم عن النفر الثلاثة، أما أحدهم فأوى إلى الله فآواه الله إليه، وأما الآخر فاستحيا فاستحيا الله منه، وأما الآخر فأعرض فأعرض الله عنه هذه جاءت مرتبة بحسب مراتبهم، فهذا الذي دنا هو الأفضل أوى إلى الله فآواه الله إليه، وهذا أكمل من الذي بعده، وهو الذي استحى فاستحيا الله منه، فالذي آواه الله أكمل حالاً من هذا الذي استحيا، فاستحيا الله منه، إيواء الله للعبد أكمل وأعظم وأبلغ.
قال: وأما الآخر يعني: الثالث فأعرض، فأعرض الله عنه والجزاء من جنس العمل، ففي هذا الحديث عظة لنا جميعًا: إذا وجدنا مجالس الذكر أن نقبل عليها، وأن ندنو، وأن نقترب، وألا يظهر من حالنا الزهد والإعراض عنها، فإن الله يعرض عن هؤلاء المعرضين.
ثم ذكر حديث أبي سعيد قال: خرج معاوية على حلقة في المسجد، فقال: ما أجلسكم؟ قالوا: جلسنا نذكر الله، قال: آلله؟ ما أجلسكم إلا ذاك؟ آلله؟ يعني: يستفهم، كأنه يقسم عليهم بقسم مقدر: آلله ما أجلسكم إلا ذاك، قالوا: ما أجلسنا إلا ذاك، قال: أما إني لم أستحلفكم تهمة لكم، وما كان أحد بمنزلتي من رسول الله ﷺ أقل عنه حديثًا مني، يعني: يقول: أنا كنتُ بدرجة من القرب من النبي ﷺ؛ وذلك من جهتين:
الأولى: أنه من كتاب الوحي.
والثانية: أن أخته أم حبيبة مع رسول الله ﷺ، ومع ذلك فقد كان مقلاً للرواية عن النبي -عليه الصلاة والسلام-؛ وذلك تورعًا وخوفًا من أن يزيد أو ينقص، أو يغير في كلام رسول الله ﷺ، وحديثه، فهو يذكر لهم هذا الكلام من أجل أن يتيقنوا أن ما قاله عن رسول الله ﷺ حق، وليس فيه زيادة، ولا تبديل.
قال: إن رسول الله ﷺ خرج على حلقة من أصحابه، فقال: ما أجلسكم؟ قالوا: جلسنا نذكر الله ونحمده على ما هدانا للإسلام، وهذا يفسر ما سبق من حديث: لا يقعد قوم يذكرون الله إلا حفتهم الملائكة، وغشيتهم الرحمة، ونزلت عليهم السكينة، وذكرهم الله فيمن عنده[2]، ففي مثل هذا نذكر الله ونحمده على ما هدانا للإسلام، ومنّ به علينا، والله يقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ [الأحزاب:9].
قال: آلله ما أجلسكم إلا ذاك؟ قالوا: والله ما أجلسنا إلا ذاك، قال: أما إني لم أستحلفكم تهمة لكم، ولكنه أتاني جبريل، فأخبرني أن الله يباهي بكم الملائكة[3]، رواه مسلم.
يباهي بكم الملائكة عمل يسير، وهو حضور مجلس من مجالس الذكر، فيباهي الله بهؤلاء الملائكة، فانظروا عبادي، فيقول ذلك تعظيمًا لشأنهم، وإكرامًا لهم، وتنويهًا بهذه الحال، والمجالس التي يجتمعون فيها.
وإذا كان الله يباهي بهم الملائكة، فما ظنكم أنه صانع بهم؟ هو كما سبق في الأحاديث الأخرى: تغشاهم الرحمة، وتنزل عليهم السكينة، وتحفهم الملائكة، ويذكرهم الله فيمن عنده.
وهكذا في الحديث الآخر: فيقول: قد غفرت لهم فأعطيتهم ما سألوا، وأجرتهم مما استجاروا[4].
فكل ذلك يحصل لهم، فهذه مزايا ومناقب لهؤلاء الذين يحضرون مجالس الذكر، ويجتمعون في بيوت الله من أجل إقامتها.
فنسأل الله أن يجعلنا وإياكم منهم، وأن يلهمنا رشدنا، وأن يقينا شر أنفسنا.
والله أعلم.
وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.
- أخرجه البخاري في كتاب العلم، باب من قعد حيث ينتهي به المجلس، ومن رأى فرجة في الحلقة فجلس فيها برقم (66) ومسلم في السلام باب من أتى مجلسا فوجد فرجة فجلس فيها برقم (2176).
- أخرجه مسلم في كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب فضل الاجتماع على تلاوة القرآن وعلى الذكر برقم (2700).
- أخرجه مسلم في كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب فضل الاجتماع على تلاوة القرآن وعلى الذكر برقم (2701).
- أخرجه مسلم في كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب فضل مجالس الذكر برقم (2689).