الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
ففي "باب ما يباح من الغيبة"، يقول النووي -رحمه الله-: "اعلم أن الغيبة تباح لغرض صحيح شرعي لا يمكن الوصول إليه إلا بها، وهو ستة أسباب:
"الغيبة تباح لغرض صحيح شرعي"، بمعنى أن الإنسان لا يكون له في ذلك هوى فيتشفى من المقول فيه مثلا فيذكر ذلك في ثوب نصح، أو إنكار منكر وهو يقصد الإساءة إليه، أو التشفي لعداوة بينهما أو نحو ذلك، فهذا لا يجوز، وإنما يجوز ذلك لغرض صحيح كهذه الستة، وأن يكون شرعيًّا، بمعنى أن ذلك لا يتوسع فيه فيتخير الإنسان مما يدعي ويزعم بذوقه أو عقله أو نحو ذلك أنه يسوغ فيه الغيبة، وكثير من العامة لربما يغتاب في موضع لا يجوز له فيه الغيبة، ثم يقول: هذا المقام لا شيء فيه، كأن يقول: هكذا حاله، أو أظنه لا يكره، أو يقول: تبريرات لا تغني عنه شيئًا، وهنا قال: "لا يمكن الوصول إليه إلا بها"، يعني إذا أمكن أن يصل إلى المطلوب من غير هذه الغيبة فهو المراد، كأن يقول مثلاً في حال الشكاية أو في حال الاستفتاء أو نحو ذلك: ما تقول في رجل من شأنه كذا وكذا وكذا؟ ما حكم من فعل كذا وكذا؟ ما حكم من قال كذا وكذا دون أن يسميه؟ فإن لم يتحقق المقصود إلا بالتسمية فإنه يسمي.
قال: "وهو بستة أسباب"، يعني هذه المواضع التي تباح فيها:
الأول: التظلم، فيجوز للمظلوم أن يتظلم إلى السلطان، والقاضي، وغيرهما ممن له ولاية، أو قدرة على إنصافه من ظالمه، فيقول: ظلمني فلان بكذا.
كأن يشكو مثلاً الولد على الوالد، والمرأة على زوجها، أو البنت على أمها، والمعلم على المدير، والموظف على المدير، ونحو ذلك ممن يرجو عنده أن ينصفه، وأن يقتص له من مظلمته يتظلم إلى القاضي والسلطان، وغيرهما.
والناس عند القاضي يتحدثون ويفصحون عن أشياء، قال: "ممن له ولاية أو قدرة على إنصافه من ظالمه"، قد لا يكون له ولاية قد يأتي إلى رجل من الناس يعتقد أنه يمكنه أن ينصفه، أو أن يصلح بينه وبين الآخر، فيقول: من شأنه كذا، ويفعل معي كذا، ونحو ذلك؛ لعله أن ينصحه، أو يكفه أو نحو ذلك، فكل هذا لا إشكال فيه ولكن بقدر الحاجة؛ لأن هذا مثل: الميتة، إنما يأخذ منها بقدر حاجته، فإن هذه الحاجة إن وجدت وقام الداعي والمقتضي لذلك فإنه لا يبيح له أن يتوسع في عرضه، ولكن لو كان عند غير من يرجو منه أن ينصفه من أهل العلم من يقول: لا يباح له أن يتكلم، والأقرب -والله تعالى أعلم- أنه يباح أن يكون ذلك للتظلم عند من لا يرجو منه شكاية، فمثل الرجل الذي أمره النبي ﷺ أن يخرج متاعه[1]، أو نحو ذلك، ثم كل من مر به قال: جاري، يتظلم من جاره أنه ظلمه ويؤذيه، ونحو ذلك، فصار الناس يسبون هذا الجار حتى حمل ذلك هذا الجار إلى التراجع عن ظلمه وأذيته، فمثل ذلك كأفراد لم يذكر ذلك؛ لينصفوهم ما فعل ذلك أحد شيئًا في إنصافه، ما ذهب إلى جاره وتكلم معه، لكن مجموع ذلك بلغ الجار فكان رادعًا له، ولهؤلاء الذين يقولون: لا يجوز عند غير من يطلب منه أن ينصفه، يقول: إن هذا الفعل بإرشاد النبي ﷺ، وأن مجموع ذلك أوصل إلى النتيجة المطلوبة، فردع ذلك عن مظلمته، ولكن الله يقول: لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ [النساء:148]، فالإنسان المظلوم الذي لا يستطيع أن ينتصف من ظالمه الأقرب أنه يجوز له أن يتكلم، ويقول: فلان ظلمني حتى عن غير من يرجو عنده أن ينصفه، والأحسن أن يترك ذلك.
الثاني: الاستعانة على تغيير المنكر، ورد العاصي إلى الصواب، فيقول لمن يرجو قدرته على إزالة المنكر: فلان يعمل كذا، فازجره عنه، ونحو ذلك، ويكون مقصوده التوصل إلى إزالة المنكر، فإن لم يقصد ذلك كان حرامًا.
إن لم يقصد ذلك يعني كأن يكون قصد الإساءة إليه التشفي منه، الانتقام لموقف آخر، أو نحو ذلك، لخصومة بينهما لعداوة لانتقاصه؛ لأن بينهما منافسة فيذكر ذلك في ثوب النصح والاحتساب والإنكار، وما أشبه ذلك فهذا لا يجوز، لا بد أن يكون لغرض صحيح، فيذكر هذا بمنكره فيقول: فلان يعمل كذا، فلان يدخل بيته أهل ريبة، فلانة يدخل عليها رجال، وفي مقام ريبة، ونحو ذلك، فهذا لا إشكال فيه.
الثالث: الاستفتاء، فيقول للمفتي: ظلمني أبي أو أخي أو زوجي أو فلان بكذا؛ فهل له ذلك؟ وما طريقي في الخلاص منه؟ وتحصيل حقي، ودفع الظلم؟ ونحو ذلك.
فهذا جائز للحاجة، يعني يستفتي تقول: بأن زوجها خاصمها وضربها وغضب عليها غضبًا شديدًا، ثم أطلق عليها الطلاق فهل هذا الطلاق يقع أو لا يقع مثلاً؟ أو أن تقول: بأن زوجها يتعاطى المسكر أو المخدرات أو الحشيش، أو نحو هذا فهل يجوز لها أن تطلب الطلاق منه؟ أو تقول: فما العمل معه؟ هل يجوز لي البقاء معه؟ هذا الرجل يفْجُر ويفعل الفواحش فهل يجوز لي البقاء معه؟ أو يجب مفارقته؟
كأن تقول: زوجي لا يصلي فهل يجوز لي البقاء معه، أو لا يجوز؟ أو نحو ذلك، فهذا للاستفتاء.
يقول: ولكن الأحوط والأفضل أن يقول: ما تقول في رجل أو شخص، أو زوج، كان من أمره كذا؟ يعني إذا أمكن أن يستغنى عن هذا عن ذكره باسمه أو بما يعرف به فإن هذا هو الأولى فإنه يحصل به الغرض من غير تعيين، ومع ذلك، فالتعيين جائز كما سنذكره في حديث هند إن شاء الله تعالى؛ لما سألت إن أبا سفيان رجل شحيح[2]، ما أنكر عليها النبي ﷺ، ما قالت: ما تقول في رجل شحيح؟ هل يجوز لامرأته أن تأخذ من ماله دون علمه؟ وإنما سمته فما أنكر عليها النبي ﷺ فدل ذلك على الجواز.
الرابع: تحذير المسلمين من الشر ونصيحتهم، وذلك من وجوه، يعني أن يكون ذلك على سبيل النصح.
ومنها: جرح المجروحين من الرواة، يقال: فلان كذاب، فلان ضعيف الحفظ، وهو يكره هذا، فلان اختلط، فلان متهم بالكذب، فلان صاحب بدعة، فهذا لا إشكال فيه، وهكذا الشهود يعني جرح الشهود كأن يقول: هذا الشاهد هو شاهد زور، لا يتورع من الكذب، هذا الشاهد يأخذ مالاً على الشهادة ويشهد بما لا علم له به مثلا؛ وذلك جائز بإجماع المسلمين، بل واجب للحاجة.
ومنها: المشاورة في مصاهرة إنسان أو مشاركته أو إيداعه، يعني أن يعطيه وديعه، أو معاملته، أو غير ذلك، يريد أن يتبايع معه، أو مجاورته، فيقول: ما تقول في فلان أريد أن أشترك معه؟ فلان تقدم لامرأة منا ما تقول فيه؟ فيجب أن يبين حاله.
يقول: ويجب على المشاور ألا يخفي حاله، بل يذكر المساوئ التي فيه بنية النصيحة.
بنية الورع لا بنية التشفي مثلاً فهذا لا إشكال فيه، بل هو واجب، لكن ما الذي يذكره، يذكر القدر الذي يكفي في بيان حاله دون أن يتوسع، فإذا كان يعرف مثلاً عشر قضايا، أو عشرة أمور تقدح فيه ويكفي واحد منها فلا داعي للتوسع، كأن يقول له مثلاً: فلان لا يصلي، فقال هذا المخطوب منه: هذا يكفي هذا، قال: لا، وأزيدك أيضًا على هذا، ما أتاك شيء، ما سمعت شيء، هذا يسافر للفجور وأيضًا، وهذا رجل يأكل أموال الناس بالباطل، وما إلى ذلك، ويسترسل في الكلام في عرضه، وكانت تكفي واحدة فلا يجوز التوسع في أعراض المسلمين، والله المستعان.
يقول: ومنها: إذا رأى متفقها يتردد إلى مبتدع أو فاسق يأخذ عنه العلم، وخاف أن يتضرر المتفقه بذلك فعليه نصيحته ببيان حاله، بشرط أن يقصد النصيحة، وهذا مما يغلط فيه، وقد يحمل المتكلم بذلك الحسد، ويلبس الشيطان عليه ذلك، ويخيل إليه أنه نصيحة فليتفطن لذلك.
يعني أن هذا الإنسان يتردد عند هذا، أو يحضر عند هذا الخطيب، أو يتعلم عند زيد، أو يقرأ عند عمرو، فيأتيه فيقول: إن فلان عنده انحرافات، عنده بدع، عنده مخالفات، عنده ضلالات، عنده شذوذات فقهية، شذوذات علمية، فهذا لا إشكال فيه، لكن ينبغي أن يكون المقصود بذلك النصح، وأن يكون هذا مما يؤثر، يعني إذا كانت اجتهادات لا تؤثر وإن اختلفت معه فيها؛ فهذا لا يحتاج إلى ذكره؛ لأنه لا يقدح فيه.
قال: ومنها: أن يكون له ولاية لا يقوم بها على وجهها: إما بأن لا يكون صالحًا لها، وإما بأن يكون فاسقًا، أو مغفلاً، ونحو ذلك فيجب ذكر ذلك لمن له عليه ولاية عامة؛ ليزيله، ويولي من يصلح، أو يعلم ذلك منه ليعامله بمقتضى حاله، ولا يغتر به، وأن يسعى في أن يحثه على الاستقامة أو يستبدل به.
كأن يقول: هذا الذي وضعته مديرًا أو وضعته وزيرًا أو وضعته لا تبرأ به الذمة، فإنه لا يصلح لهذه الولاية هذا رجل فاسد، هذا رجل مفسد، هذا رجل ينشر الفساد والخنا والفجور، وما إلى ذلك، هذا رجل فيه كذا، وفيه كذا، من أجل أن يستبدل أو أن تصلح حاله، وهكذا كأن يقول لمدير المدرسة: هذا المعلم لا يحسن التعليم، هذا المعلم لا يفقه من هذا العلم الذي يدرسه شيئًا، هذا المعلم يعلم الطلاب أشياء غير صحيحة، يعلمهم أمور تضرهم في دينهم، وهكذا.
الخامس: أن يكون مجاهرًا بفسقه أو بدعته، يعني يجاهر بالمعاصي أو بالبدع، كالمجاهر بشرب الخمر، ومصادرة الناس، مصادرة الناس يعني يأخذ حقوق الناس وأموال الناس بأي طريق كان، فيذكر هذا يقال: فلان يأكل أموال الناس بالباطل، فلان يأخذ أموال الناس يعبث بها؛ لأنه مجاهر بذلك، فلان يدخن، وهو يدخن أمام الناس، وإذا كان بالسيارة أخرج يده وفي يده هذا البلاء، والنبي ﷺ يقول: كل أمتي معافى إلا المجاهرين[3]، فهذا يجاهر، ويخرج لا يستخفي بهذا، يقال: فلان يدخن، لا تقول: لا تغتابه.
يقول: وأخذ المكس، المكس مثل الضريبة التي تؤخذ على التجار ونحوهم إذا دخلت بضائعهم إلى الأسواق، أو إلى البلاد، أو نحو هذا، وهو من الكبائر، والنبي ﷺ قال في المرأة التي زنت: لقد تابت توبة لو تابها صاحب مكس لقبل منه[4]، فصاحب المكس معنى ذلك أنه صاحب ذنب عظيم أعظم من الزنى لو تابها صاحب مكس.
قال: وجباية الأموال ظلمًا، يأخذ من الناس إتاوات ونحو ذلك بالظلم، وتولي الأمور الباطلة، يعني معروف بهذا، يعني رجل يعمل في بنك ربوي، أو يتعامل بالربى، أو نحو هذا فيجوز ذكره بما يجاهر به، ويحرم ذكره بغيره من العيوب، هذه الجزئية التي يجاهر بها قضايا أخرى لا، لا يتوسع في أعراض الناس إلا أن يكون لجوازه سبب آخر مما ذكرناه، كأن يتقدم إلى أناس فيقال: هذا الرجل يأكل أموال الناس بالباطل، فيبدأ أبو البنت يتفلسف، ويقول: المال منه ما يحرم لكسبه، ومنه ما يحرم لوصفه، وقد جاء بها من طريق مباح، وهو النفقة الواجبة فلا شأن لنا به، الحرام والإثم عليه، يقال: لا، هذا رجل صاحب فجور، صاحب فواحش واضح، وهكذا.
قال السادس: التعريف، إذا كان الإنسان معروفًا بلقب، كالأعمش، والأعرج، والأصم، والأعمى، والأحول، وغيرهم، وهذا تجدونه كثيرًا في كتب الرواة والتراجم ونحو ذلك، فالأعمش سليمان بن مهران من كبار الأئمة الحفاظ وعلماء التابعين، والعمش هو ضعف البصر مع سيلان في العين، يعني تنزل منها دائما العين تدمع.
والأعرج كذلك مثل: عبد الرحمن بن هرمز الأعرج، ويوجد آخرون أيضًا يقال لهم.
والأصم مثل: المفسر، ومثل: مالك الكلبي يلقب بالأصم.
قال: والأعمى كأن يعرف بهذا، قال الله تعالى: عَبَسَ وَتَوَلَّى أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى [عبس:1-2]، وهو عبد الله بن أم مكتوم .
والأحول من الرواة والعلماء عاصم الأحول، وغيرهم، مثلاً يقال للرجل مثلاً: الكوسج، الطويل، البطين.
غندر يعني مشاغب، وأيضًا مطين، وأمثال هؤلاء هذه ألقاب جاز تعريفهم بذلك، ويحرم إطلاقه على جهة التنقيص، فلا يقوله على سبيل الانتقاص، وإنما التعريف إذا توقف ذلك على اللقب، والتاج السبكي يقول عن أبيه تقي الدين: بأنه كان في الدار وابنه التاج كان مع بعض أقرانه خارجًا فمر كلب كأنه أراد الدخول أو نحو ذلك فقال: يا كلب يا ابن كلب فزجره أبوه، وهو داخل الدار لما سمع هذا، فقال الابن: هو كذلك، هو كلب، قال: ولكنك أردت الشتم والسب[5]، يعني ما أردت التعريف، بل قال ذلك على سبيل الشتم، فهذا الآن لبهيمة لكلب فكيف بالذي يقول ذلك في الناس!
يقول: ولو أمكنه تعريفه بغير ذلك كان أولى، معنى ذلك أنه لا يحرم؛ لأن مثل هؤلاء لو قال: سليمان بن مهران سيعرف غالبًا.
فهذه ستة أسباب ذكرها العلماء، وأكثرها مجمع عليه، ودلائلها من الأحاديث الصحيحة مشهورة، ثم ذكر هذه الأحاديث، وهذه الستة نظمها عدد من أهل العلم أذكر لذلك نظمين الأول يقول:
القدح ليس بغيبة في ستة | متظلم ومعرف ومحذر |
ومجاهر بالفسق وثمت سائل | ومن استعان على إزالة منكر[6] |
ونظمها آخر يقول:
يباح اغتياب للفتى إن تجاهرا | لفسق لتعريف أو للتظلم |
كذاك لتحذير ومن جاء سائلاً | كذا من أتى يبغي زوال محرم[7] |
يعني يريد أن يزيل منكر من المنكرات، ثم ذكر الأحاديث في الباب، والله تعالى أعلم.
- أخرجه أبو داود، أبواب النوم، باب في حق الجوار، برقم (5153)، والحاكم في المستدرك، برقم (7302)، وقال: "هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه"، وقال الألباني: "حسن صحيح"، كما في صحيح الأدب المفرد، برقم (125).
- أخرجه البخاري، كتاب النفقات، باب إذا لم ينفق الرجل فللمرأة أن تأخذ بغير علمه ما يكفيها وولدها بالمعروف، برقم (5364)، ومسلم، كتاب الأقضية، باب قضية هند، برقم (1714).
- أخرجه البخاري، كتاب الأدب، باب ستر المؤمن على نفس، برقم (6069)، ومسلم، كتاب الزهد والرقائق، باب النهي عن هتك الإنسان ستر نفسه، برقم (2990).
- أخرجه مسلم، كتاب الحدود، باب من اعترف على نفسه بالزنى، برقم (1695).
- انظر: بريقة محمودية في شرح طريقة محمدية وشريعة نبوية في سيرة أحمدية (3/188)، والرفع والتكميل (ص:46).
- انظر: دليل الفالحين لطرق رياض الصالحين (8/362)، وفي سبل السلام (2/671): "الذم ليس بغيبة...".
- انظر: دليل الفالحين لطرق رياض الصالحين (8/362).