الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فهذا باب تحريم سب الأموات بغير حق، ومصلحة شرعية، وذكر فيه حديثًا واحدًا.
وظاهره: أنه لا يسب الأموات لا الكفار ولا غير الكفار، هذا ظاهره.
قال: "بغير حق، ومصلحة شرعية" يعني: من جاء سبه عن الله أو عن رسوله ﷺ كقوله: تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ [المسد:1] فمثل هذا لا إشكال فيه، وهكذا إذا كان محاربًا للمسلمين، ومؤذيًا لهم، أو كان سببًا لأمور وقعت لأهل الإيمان، وما إلى ذلك من أنواع الشرور والمصائب والأذى.
والمصلحة الشرعية: كبيان حال إنسان يغتر به الناس، وهو صاحب بدعة، وصاحب ضلالة، وصاحب هوى، وما أشبه ذلك، فيروي الحديث، أو ينقل الناس عنه العلم، أو ما أشبه ذلك، وهو صاحب ضلالات، فيُبيّن، فيقال: هذا الإنسان مبتدع، وهذا الإنسان منحرف، وما أشبه ذلك، وهكذا كبار المفسدين، وغيرهم، كحينما يذكر أمثال نصير الدين الطوسي، وأمثال هؤلاء.
يقول: "وهو التحذير من الاقتداء به" هنا يُبين المصلحة الشرعية: التحذير من الاقتداء به، في بدعته وفسقه، ونحو ذلك، وفيه الآيات والأحاديث السابقة في الباب قبله.
وذكر هنا حديث عائشة -رضي الله عنها- قالت: قال رسول الله ﷺ: لا تسبوا الأموات، فإنهم قد أفضوا إلى ما قدموا[1]، رواه البخاري.
فقوله: لا تسبوا الأموات الفاء هنا للتعليل.
فإنهم قد أفضوا إلى ما قدموا يعني: لا فائدة من سبهم، وقد قدموا على ما عملوا، وقدموا وأسلفوا من الأعمال، فالله يجازيهم على ذلك، وهو حكم عدل، فلا حاجة لسبهم.
وقوله ﷺ: لا تسبوا الأموات، فإنهم قد أفضوا ظاهره العموم، وأن ذلك للجميع الكفار وللمسلمين، فإن ذلك يصدق عليهم.
فإنهم قد أفضوا إلى ما قدموا وفي الحديث الآخر لما جيء بجنازة، فأثنوا عليها شرًا، وقال النبي ﷺ: وجبت وقال: أنتم شهداء الله في الأرض[2]... إلخ.
فمثل هذا الحديث أقرهم النبي ﷺ، وما نهاهم في هذا النقل والرواية عن سب هذا الميت، فبعض أهل العلم قال: إن ذلك قبل الدفن، فلا إشكال فيه، وبعد الدفن، فإنه يمنع منه.
وأخذوا ذلك من بعض الأحاديث التي فيها النهي عن سب المقبورين، أو أهل القبور، أو أهل المقابر، وقالوا: إذا قُبر خلاص، هكذا قال بعض أهل العلم.
وهذا لا يخلو من إشكال؛ لأن الحديث هنا ظاهره الإطلاق.
ويحتمل: أن النبي ﷺ نهى عن سب الأموات بعد تلك الواقعة التي تكلموا فيها في حق ذلك الإنسان.
ويحتمل: أن يكون ذلك على التفصيل، فيقال: سب الأموات فيه تفصيل:
أن من عرف بالشر فهو كالأحياء، فذكره بالسوء هذا، كالغيبة له، بل هو غيبة له، فمن جازت غيبته في الحياة، جاز ذكره بعد الوفاة، فإذا كان معلنًا بالشر، أو على سبيل التحذير منه لضلاله وبدعته وأهوائه، وما أشبه ذلك، فلا إشكال عند بعض أهل العلم.
وأن ذلك يقال فيه كما يقال في الحي، فذلك الذي أثنوا عليه شرًا كان يستحق هذا، فأقرهم على ذلك النبي ﷺ، فيكون النهي عن سب الأموات بالنسبة لمن لا تجوز غيبتهم من أهل الإيمان، غير المستعلن بالكفر أو بالفسق أو ببدعة، أو داعية إليها، أو نحو ذلك.
ويحتمل: أن يكون النهي عن سب الأموات، مع ما وقع من قوله ﷺ لما أثنوا عليها شرًا، قال: وجبت ولم ينكر عليهم، ويحتمل: أنه أنكر، وما نقل، ولا يبعد.
ويحتمل: أن يكون ذلك باعتبار أن النهي عن سب الأموات من أجل ألا يتأذى الأحياء، فإنه قد جاء في بعض الأحاديث ما يدل على هذه العلة، فمن كان له حي يتأذى به فلا يُسب الميت.
ومن ثم فإن بعضهم ذكر بعض المرويات في هذا الباب: فإن صحت أنهم سبوا مثلاً بعض قرابة النبي ﷺ، أو العباس، أو غير ذلك، وكذلك ما يروى من أن أبا جهل كان يُسب، وعكرمة يتأذى بسبه لما أسلم، فنهوا عن هذا.
فالشاهد: أن بعض أهل العلم يقول: لأن ذلك يؤذي الأحياء.
هل هذه العلة تعارض قوله هنا: فإنهم قد أفضوا إلى ما قدموا؟ يمكن أن تجتمع هذه وهذه، فتكون العلة: بما أنهم أفضوا إلى ما قدموا، فإن ذلك يؤذي الأحياء، أو مع ما في ذلك من أذية للأحياء، والله تعالى أعلم.
وعلى كل حال هذا الحديث ظاهره الإطلاق.
ومن أهل العلم من قال -كما سبق-: يقال في ذلك ما يقال في الأحياء، مع أن الحديث ليس فيه هذا التفصيل، لكن هي محاولة للجمع بين الأحاديث الواردة، والله أعلم.
وصلى الله وسلم على محمد، وعلى آله وصحبه.
- أخرجه البخاري في كتاب الجنائز، باب ما ينهى من سب الأموات برقم (1393).
- أخرجه البخاري في كتاب الجنائز، باب ثناء الناس على الميت برقم (1367) ومسلم في الجنائز، باب فيمن يثني عليه خير أو شر من الموتى برقم (949).