الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فهذا باب تحريم الرياء، والرياء معروف، وهو مأخوذ من الرؤية، وذلك أن يلاحظ المتعبد بعبادته نظر المخلوقين، بخلاف السمعة فإنها تتعلق بالسمع، فيوصل إليهم ذلك إلى مسامعهم أنه قد فعل، وأنه قد بذل، وأنه قد حصل، وما إلى ذلك، كل ذلك لينال حظوة في نفوسهم، ومن أجل أن يحصل على ثنائهم، وإطرائهم، وهي بضاعة لا تغني عنه شيئًا.
قال الله تعالى: وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ فقوله: مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ هذا ينفي سائر أنواع الشرك بكافة صوره، وأشكاله، الشرك الأكبر، والشرك الأصغر؛ لأن ذلك جميعًا ينافي الإخلاص، فالرياء، والسمعة، وإن كانت من قبيل الشرك الأصغر إلا أنها أيضًا هي من قبيل الإشراك، وهي داخلة في عموم قوله -تبارك وتعالى-: إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ فهي كما قال أهل العلم جنس الإشراك أعظم من جنس الكبائر، والمعاصي، فالشرك هو أكبر الكبائر، وأعظم الذنوب.
وقوله: حُنَفَاءَ الحنف أصله الميل -كما مضى في مناسبات متعددة- فهم يميلون عن كل اعتقاد فاسد، وعن كل عبادة باطلة، وعن كل معبود باطل إلى المعبود الحق -تبارك وتعالى- فأصله الميل، حنفاء هذا هو الحنف، ولهذا كانت أم الأحنف بن قيس ترقصه، وهو صغير -فيه حنف في رجله- وتقول:
والله لولا حنف في رجله | ما كان في فتيانكم من مثله[1] |
فعلى كل حال، وقال تعالى: لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ فذكر المن والأذى، وقد مضى الكلام على هذا، فالمن أن يذكر المعطى بالعطية بوجه من الوجوه، سواء كانت ذلك بطريق خفي أو بطريق واضح صريح.
والأذى أن يؤذيه بأي صورة كانت بسبب هذا العطاء، كأن يعطيه، ويزجره، ويسمعه ما يجرحه، ونحو ذلك، فهذا كله مما يبطل العمل، فيذهب أجر الصدقة، ولهذا قال الله : قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى.
قال: كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ بمعنى لا تبطلوا الصدقات بالمن والأذى اللذين يذهبان أجوركم، كالذي ينفق ماله رئاء الناس، حيث لا يكون له أجر، ولا نصيب عند الله -تبارك وتعالى- من هذا العمل الذي عمله كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ فهو يطلب محمدة، لا يطلب ما عند الله، والله غني عنه وعن عمله.
وقال تعالى: يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلاً هذا ذكره في سياق الذم للمنافقين، حيث إن هؤلاء المنافقين إنما يعملون من أجل ملاحظة نظر المخلوقين، فهم يصلون، ويحضرون لمامًا في الغزوات من أجل أن يثبتوا وجودهم، كما قال الله : وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلاً إثبات حضور، أو إذا كان هناك طمع وغنيمة قريبة من غير قتال يذكر، أو من غير تعب وجهد، فإنهم يأتون ليحصلوا هذا المطلوب الرخيص؛ فالحاصل أنهم يراءون الناس، ولا يذكرون الله إلا قليلاً.
ذكر هاتين الصفتين للمنافقين: الرياء، وقلة ذكر الله ، ولماذا يذكرون الله كثيرًا وقلوبهم خاوية من ذكره، إنما هم يريدون ما عند الناس، لما اضمحل الإيمان في قلوبهم وضعف صار هؤلاء -أعني المنافقين- يلاحظون نظر المخلوقين، ويطلبون ما عندهم، ولا يرجون ما عند الله -، وتقدست أسماؤه-.
وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلاً فهم لا يعرفونه، ولا يذكرونه، ولا ينبغي للمؤمن بحال من الأحوال أن يكون فيه هذه الأوصاف، أو أن يكون فيه واحدٌ منها وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلاً.
وعن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: قال الله تعالى: ((أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركته وشركه))[2] رواه مسلم.
وهذا يشمل الشرك الأكبر والشرك الأصغر، فيدخل في ذلك الرياء والسمعة من عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركته وشركه فقليل الشرك يبطل العمل، فإذا كان ذلك أعني الرياء والسمعة إذا دخل الرياء في أول العمل، يعني عند الابتداء، هذا الإنسان يريد أن يصلي، عند تكبيرة الإحرام في العمل الواحد، يعني الذي لا يتبعض، فإن ذلك يبطله، يعني حينما أراد أن يكبر تكبيرة الإحرام هو في قلبه أنه يلاحظ الآخرين، فهذا عمله باطل، لا نصيب له، ولا أجر عند الله -تبارك وتعالى- هذا إنسان أراد أن يتصدق صدقة، فلاحظ الناس فإنه لا أجر له، ولا نصيب عند الله -تبارك وتعالى-.
العمل الذي يكون واحدًا لا يتبعض إذا دخله الرياء أثناء العمل، يعني في الركعة الثانية مثلاً شعر بدخول إنسان، فصار يلاحظه، فمثل هذا فيه خلاف بين أهل العلم، والأقرب أنه إن كان عارضًا، فدفعه، خاطرة خطرت فدفعها أن العبادة صحيحة، لا تبطل، وهذا العارض لا يملكه الإنسان، لكن عليه أن يدافعه، فإن استرسل مع الرياء والسمعة، استمر معه فإن ذلك يبطل العمل، يبطل أوله وآخره، يعني يبطل هذه الصلاة التي صلى فيها مثلاً ثلاث ركعات خالصة في الركعة الأخيرة دخلها الرياء؛ فتبطل.
وهكذا الأعمال التي تكون من هذا القبيل، حصل له الرياء في الشوط السابع، والعجيب بعض الناس يرسل رسالة في تويتر، وهو يطوف، أنا الآن في الشوط السابع، وهذا من أعجب الأشياء، أنا لا أتابع في تويتر، ولا أقرأ، لكن أسمع من العجائب والغرائب، أسمع بلا أسماء أن من الناس من يفعل هذا، أنا الآن أطوف في الشوط السابع، الإنسان يخفي عمله، ويجاهد نفسه، ولا يكاد، فكيف بإعلام العالمين، يتابعه مثلاً مئات الألوف، ويرسل لهؤلاء مئات الألوف، ويقول لهم: أنا الآن في الشوط السابع، نحن لا نحكم على نيته، ما شققنا عن قلبه، الله أعلم بنيته، لكن لا ينبغي للإنسان أن يفعل هذا، ولا يليق، وإذا كان الإنسان ينتسب للعلم فهذا أشد.
فعلى كل حال هذا بالنسبة للعمل الواحد، أما العمل الذي يتبعض، مثل: لو أنه قرأ جزءًا من القرآن خالصًا لله ثم بعد ذلك شرع في سورة أخرى، أو في جزء آخر، فدخل عليه الرياء، واسترسل معه، فالذي يبطل هو الذي راءى فيه، فلو أصلح نيته، وعادت نيته خالصة، فإنما بعد ذلك مما قرأه خالصًا لله، فإنه يكون صحيحًا، لا يبطل، الذي يبطل هو الذي دخله الرياء، هذا في الأعمال التي تتبعض، يعني لا يبنى آخرها على أولها، مثل الصلاة، والطواف على القول الراجح، وما أشبه ذلك، ويبقى هناك بعض العبادات محل نظر، محل تردد فيما يعرض له.
يعني مثلاً لو أنه جاء يريد أن يعتمر، وقال: لبيك عمرة لا رياء فيها ولا سمعة، وهو يرائي، فهذا عند الشروع في العمل، مثل الذي عند تكبيرة الإحرام، فعمرته باطلة، طيب لو أنه عرض له أثناء العمرة في السعي هذا الرياء، ففي هذه الحال إن دفعه؛ صحت، وإن استرسل معه؛ فآخر العمرة مبني على أولها، فلا تصح العمرة بكاملها بهذا الاعتبار، لا أقصد أنها لا تصح أنه لا يؤجر عليها، يعني لا يطالب بالإعادة مرة أخرى.
في الحج إن كان حجه تمتعًا، فحصل الرياء في العمرة؛ بطلت عمرته، وكان حجه الذي أحرم به فيما بعد، إن كان خالصًا فذلك منفصل، واضح؟ فتذهب عليه العمرة، لا يؤجر عليها، وهكذا.
على كل حال فالله -تبارك وتعالى- ذكر هذا في هذا الحديث القدسي: أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركته وشركه[3] وذكر بعد ذلك الحديث الطويل، لا أطيل عليكم، نتوقف هنا، والله أعلم.
وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.
- انظر: الفاخر، للمفضل (298).
- أخرجه مسلم، كتاب الزهد والرقائق، باب من أشرك في عمله غير الله، برقم (2985).
- أخرجه مسلم، كتاب الزهد والرقائق، باب من أشرك في عمله غير الله، برقم (2985).