الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
باب تحريم الخلوة بالمرأة الأجنبية، بمعنى أنه لا يوجد معهم أحد لا من المحارم، ولا من غير المحارم ممن ترتفع به الخلوة على تفصيل، يعني العلماء تكلموا في أشياء، من الذي ترتفع به الخلوة؟
بعض العلماء يقولون: ترتفع بالطفل المميز، سواء كان ذكرًا أو أنثى، وهذا الطفل المميز ما ضابط التمييز؟
بعضهم يضبطه بالسن، باعتبار المظنة، الغالب أن السابعة هي سن التمييز في الغالب، وإلا فمن الأطفال من يكون ذلك في الرابعة مثلاً يصل إلى سن التمييز؛ لميز في ذكائه وفطنته، وما إلى ذلك.
وضابط التمييز عند أهل العلم على اختلاف عباراتهم التي من أشهرها، يقولون: هو من يفهم الخطاب، ويرد الجواب، وهذا يوجد فيمن دون السابعة في كثير من الأطفال، فمعنى ذلك أنه لو حصل ريبة، أو نحو ذلك يتنبه هذا الطفل، يعني أنهم يحتاطون له، يحسبون له حسابًا، بخلاف غير المميز فإن وجوده كعدمه، لكن هذا ليس محل اتفاق بين أهل العلم أن الطفل المميز ترتفع به الخلوة، بعضهم لا يرى أنها ترتفع به الخلوة، وبعض النساء ذوات الأغراض السيئة، ومداخل الريبة تأخذ صغارها تمويهًا لتقارف ما يحلو لها من المنكرات، والفواحش -نسأل الله العافية- وهذا معروف، وأهل الحسبة، والهيئة كثيرًا ما يقبضون حالات من هذا القبيل معها أطفال، وهي خرجت مع رجل أجنبي لريبة، أخذت الأطفال تمويهًا.
فالشاهد: أن الطفل المميز ليس محل اتفاق أنه ترتفع به الخلوة، وهل ترتفع بوجود رجلين مع امرأة؟
من أهل العلم من يقول: لا ترتفع؛ لأنه يمكن أن يتفقوا بشأنها في شيء فيه ريبة، وهل ترتفع بامرأة أخرى، يعني يوجد امرأتان مع رجل واحد، بدلاً من امرأة واحدة مع رجل هذه خلوة بالاتفاق، لكن امرأتان مع رجل واحد؟
من أهل العلم من يقول: فيه خلوة، بل ذهب بعض أهل العلم كالشافعي -رحمه الله- إلى أن الرجل الواحد لا يخلو بمجموعة النساء، ولو للصلاة بهن إمامًا من غير حائل، لاحظوا لو جمعنا كلام الأئمة الكبار من أئمة المذاهب؛ لوجدنا أن ما يفتي به المشايخ عندنا اليوم يعد مقارنة بغيره فيه نوع من التوسع والتيسير؛ هذا الذي يقول عنهم بعض أصحاب الأهواء بأنهم يتشددون، وأنهم يضيقون على الناس، وأنهم أصحاب فقه صحراوي، وأنهم غير مرنين، وما إلى ذلك كذبًا وزورًا.
ولعل الله أن ييسر، فأطرح في بعض المناسبات نماذج عملية تطبيقية على هذا، آتي بأقوال الأئمة الكبار المشهورين، وأقارن بالفتاوى التي يفتي بها العلماء المعتبرين في عصرنا هذا، لتعرفوا أن هؤلاء العلماء أبعد ما يكونون عن التشدد الذي يصمهم به بعض الناس، والمشكلة حينما يتكلم من لا يعرف أصلاً المعايير، ومتى يكون الإنسان متشددًا أو لا، هذا يحتاج إلى معايير، يحتاج إلى معرفة القواعد التي يبنى عليها الفقه، والفهم، والاستنباط حتى يعرف أن هذا تشدد، أو تساهل، أو اعتدل وتوسط، واليوم كل أحد يتكلم بما يحلو له، وتجد الرجل منغمسًا في الجهل، ويتكلم، يقول: فلان متشدد، وفلان مرن، وكيف تعرف أن هذا متشدد، أو مرن؟ كيف حكمت؟ بناء على ماذا؟ ما هي المقاييس؟ على أي ميزان؟
ما عنده شيء إلا الهوى، إذا رأى أن هذه الفتاوى توافق الهوى قال: هذا مرن، ممتاز، طيب، وإذا رأى أنها تخالف هواه انقبض، ورأى أن هذا متشدد، ويضيق على الناس، وأنه صاحب فقه بدوي كما يقال.
فهنا إذًا الخلوة تحريم الخلوة بالمرأة الأجنبية، ويفهم منه أن الخلوة بذوات المحارم لا إشكال فيها ما لم يكن ذلك لريبة، يعني بعض المحارم -كما ذكرت في مناسبة سابقة- أنه لا يخلو من ريبة في تصرفاته، ونظره لمرض فيه، فمثل هذا خطير، لا تخلو به المرأة، وإن كان من محارمها إذا كان إنسان لا يتقي الله وينظر بريبة، ويتصرف تصرفات ذات ريبة، فتتوقى المرأة مثل هذا.
قال الله تعالى: وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ هذه في أمهات المؤمنين -رضي الله عنهن- مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ فبعض الناس يقول: هذه في أمهات المؤمنين، وغير أمهات المؤمنين غير داخلات في الحكم، فما المانع من الخلوة والاختلاط بالنساء الأجنبيات؟ هذه خاصة في أمهات المؤمنين، نقول: إذا كان هذه في أمهات المؤمنين، ويحرم التزوج بهن، وهؤلاء الذين خوطبوا بهذا صحابة، أطهار، أبرار، أفضل جيل اختارهم الله لصحبه نبيه ﷺ ويقول الله: وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنّ.
طيب إذا كان هؤلاء ليسوا صحابة، مثل في عصرنا هذا، والنساء لسن أمهات المؤمنين، أليس من باب أولى إذا سئلت تسأل من وراء حجاب؟ وإذا درست أن تدرس من وراء حجاب؟ والعلة واضحة ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنّ فإذا كان في الصحابة ففي غيرهم من باب أولى.
وأما ما يزعمه بعض الناس من أن قلبه نظيف، ولربما يحتج بعضهم بأسلافه من آبائه وأجداده، كيف كانوا يجلسون مع النساء، ويتبسطون معهن من غير ريبة، وأنكم أتيتم بما لم نعرف في آبائنا، ففرقتم بين الرجال والنساء، يعني غير المحارم، وكنا نجلس، ونأكل مع بعض، ونتحدث مع بعض من غير ريبة، وقلوبنا نظيفة، وهذا من أكذب الكذب، والذين يقولون هذا الكلام يعرفون جيدًا أن هذا الكلام غير صحيح، وإذا صدق بعض هؤلاء تكلموا عن أمور من الريب يعرفونها أيام شبابهم، ولكن الإنسان أحيانًا يكابر، ويغالط نفسه، ويقول: قلوبنا نظيفة، المرأة هي محل شهوة الرجل شاء أم أبى، ركب هذا التركيب، فالشارع حكيم، فقطع طريق الشر.
ثم ذكر المصنف -رحمه الله- حديث عقبة بن عامر أن النبي ﷺ قال: إياكم والدخول على النساء هذا تحذير إياكم والدخول على النساء والمقصود بالنساء: الأجنبيات غير المحارم، فقال رجل من الأنصار: أفرأيت الحمو؟ الدخول على النساء الآن يدخل عليها في البيت، يدخل عليها في المكتب، يدخل عليها في المتجر إذا كانت تبيع، وهكذا إياكم والدخول على النساء فقال رجل أرأيت الحمو؟
الحمو هو أقارب الزوج كأخيه، وما شابه ذلك، فقال: الحمو الموت[1] متفق عليه.
ما معنى الحمو الموت؟ العرب تقول: الأسد الموت، يعني أنه طريق موت محقق، يعني هو الخطر الأول، ولماذا كان الحمو هو الموت؟ الحمو الموت؛ لأن دخوله لا يستنكر، دخل بيت أخيه، ما هو إنسان من خارج جاء، هذا داخل لبيت أخيه، فالناس يقولون: فلان أخو فلان، فمن هنا كان أخطر من الإنسان الأجنبي الذي لربما يتحير، أو تتحير المرأة كيف يدخل، وإذا رآه الناس ماذا يقولون؟ لكن أخوه دخل، أهلاً وسهلاً الحمو الموت واليوم ماذا يقال؟
يقال: السائق أخطر من الحمو؛ لأن الحمو قد يغار على زوجة أخيه إذا عنده مروءة، ودين، وفطرة، قريب الزوج قد يغار إلا إذا كان ضعيف الدين، ضعيف التقوى، ضعيف المروءة، لكن ما تقولون في السائق والخادم، معه مفتاح الباب، والأصل أنه يدخل ويخرج، وكثير من النساء لا تراه شيئًا، تعده من التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ فيدخل، ويدخل المشتريات إلى داخل المطبخ، ويحمل أغراض من داخل البيت ويخرجها، ويذهب بالمرأة، ويأتي بها في كل يوم، وجلوسها معه في السيارة لوحدهم تعتبر خلوة، لو تحدث معها حديث ألف ليلة وليلة -كما يقال- ما شعر الناس بهذا.
فهذه السيارة خلوة، سواء كانت مظللة، أو غير مظللة، يتحدثون عما شاؤوا، ويفعلون ما شاؤوا، ويذهبون حيث شاؤوا من غير حسيب، ولا رقيب، وما يشعرون بزوجها، فهذا أخطر من الحمو، والناس يتساهلون فيه، ويرون أنه ليس بذلك الذي يتحفظ عنه، الكثير من النساء أصلا ما تتغطى عنه؛ لأنها تعتبره من التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ، لا يحتجب عنه ما يرونه شيئًا، وما علموا أن هذا أخطر بكثير، وقد نأى عن بلده، وعن أهله في بلد هو غريب فيها، والغريب عادة يحصل له من التخفف من المروءات ما لا يحصل في بلده، في بلده يراعي الناس، وسمعته، وسمعة أهله، لكن بلد لا يعرفه أحد فيها، فيتخفف من كثير من المروءات الإنسان إذا سافر، ولا يتحفظ كما يتحفظ في بلده، فهذا للأسف تساهل فيه كثير من الناس بدعوى الثقة.
وهكذا قد تتساهل المرأة مع البائع في المطعم الذي يوصل الطعام، يوصل الطلبات للبيت، فتطلب منه أن يدخل، ويدخل هذا إلى داخل البيت، وهذا صاحب مطعم جاء معه وجبة، يدخل فيها، فهو بمنزلة الخادم، وهذا خطير أيضًا في غاية الخطورة، وقد يكون هؤلاء من هؤلاء الخدم أجمل من زوجها، وأقوى، وأفتى، أكثر فتوة، وأجمل عبارة وحديثًا، فتعجب به المرأة، وتفتن به، وقد يقول لها كلمة فيفتنها، إلى غير ذلك مما قد يحصل من المفاسد، قال: الحمو الموت أخو الزوج، ابن عم الزوج، ابن أخيه، وغير هؤلاء.
ثم ذكر حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- أن رسول الله ﷺ قال: لا يخلون أحدكم بامرأة إلا مع ذي محرم[2] متفق عليه.
لا يخلون أحدكم معناها أنه مهما كان يقول: أنا قلبي سليم، هذه بمنزلة بنتي، أو يقول: أنا إنسان تقي، أو المرأة تقول: فلان تقي، هو فوق التهمة، ما ينبغي لا يخلون أحدكم بامرأة طيب هذه المرأة كبيرة، هذه المرأة شمطاء، هذه المرأة قد تكون غير جذابة، قد تكون هذه المرأة سوداء إلى غير ذلك، هنا الشريعة ما راعت هذا المعنى، لا تقل: كبيرة في السن أخلو بها لا بأس، هذه امرأة غير جميلة أخلو بها لا بأس، هذه الخادمة غير جميلة أخلو بها لا بأس، وكثير من الناس يتساهل في هذا، تذهب زوجته، ويبقى مع الخادمة في البيت، وهذا خطر داهم، قد في البداية يقول: أنا ما يخطر في بالي هذا، ولكن الشيطان يخطرها في باله، أو يخطره في بالها.
فهنا نهي عام، ما في استثناءات، ما قال: إلا أن تكون غير ذات جمال، إلا أن تكون كبيرة في السن، فيحمل ذلك على العموم، ممنوع الخلوة بالمرأة الأجنبية أيًا كانت.
ثم ذكر حديث بريده، وهو الأخير في هذا الباب قال: قال رسول الله ﷺ: حرمة نساء المجاهدين على القاعدين كحرمة أمهاتهم[3] بهذه المنزلة، هذا الرجل خرج للجهاد، فأهله بحاجة إلى رعاية، فبدلاً من رعايتهم، والقيام عليهم تحصل الخيانة، وهو خرج في هذا المطلب الشريف كحرمة أمهاتهم ما من رجل من القاعدين يخلف رجلا من المجاهدين في أهله يعني يقول له: انتبه للأهل، آتي لهم حاجاتهم، اجعل عينك عليهم فيخونه -نسأل الله العافية- فيخونه فيهم إلا وقف له يوم القيامة هذا الذي حصلت الخيانة في حقه يقف يوم القيامة لهذا الخائن فيأخذ من حسناته ما شاء حتى يرضى ثم التفت إلينا رسول الله ﷺ فقال: ما ظنكم[4] يعني ما ظنكم أن يبقي من حسناته، والنفوس مجبولة على الرغبة في الزيادة، فإنه لن يبقى من حسناته شيء، فتح المجال له، خذ ما شئت، فهذا يدل على عظم هذا الجرم.
المصنف -رحمه الله- هناك في الباب الذي قبله ذكر تحريم النظر، وهنا باب تحريم الخلوة بالأجنبية، ولم يذكر الأمرد الحسن، ولكنه ملحق بذلك؛ لوجود العلة والمفسدة في هذا المعنى، والله تعالى أعلم.
- أخرجه البخاري، كتاب النكاح، باب لا يخلون رجل بامرأة إلا ذو محرم، والدخول على المغيبة، برقم (5232)، ومسلم، كتاب السلام، باب تحريم الخلوة بالأجنبية والدخول عليها، برقم (2172).
- أخرجه البخاري، كتاب النكاح، باب لا يخلون رجل بامرأة إلا ذو محرم، والدخول على المغيبة، برقم (5233)، ومسلم، كتاب الحج، باب سفر المرأة مع محرم إلى حج وغيره، برقم (1341).
- أخرجه مسلم، كتاب الإمارة، باب حرمة نساء المجاهدين، وإثم من خانهم فيهن، برقم (1897).
- أخرجه مسلم، كتاب الإمارة، باب حرمة نساء المجاهدين، وإثم من خانهم فيهن، برقم (1897).