الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فهذا "باب كراهية المشي في نعل واحدة، أو خف واحد لغير عذر، وكراهة لبس النعل والخف قائمًا لغير عذر"، وذلك لما جاء من النهي عنه كما سيأتي في الأحاديث وعلة هذا النهي من أهل العلم من قال: لما فيه من المثلة، والهيئة غير المستحسنة فيكون بصورة غير حسنة، وهذه الشريعة جاءت بالضرورات حفظ الضرورات، والحاجيات، والتحسينات، وهذا القسم الثالث من التحسينات يحصل به حفظ المروءات، وما يكون من الكمالات في الأحوال والهيئات، فقالوا: هذا لا يكون بصورة حسنة، لا يكون بصورة، وهكذا قول من قال: لأنه لا يكون يمشي مشيًا معتدلاً.
ومعلوم أن الإنسان في خلقته لو أن إحدى الرجلين زادت شيئًا يسيرًا عن الأخرى في الخلقة لصار يمشي ميلاً مشية مائلة مضطربة وهذا معروف، وجاء ما يدل على أن ذلك منع لما فيه من التشبه بالشيطان[1]، هذه هي العلة يمشي بنعل واحدة فيكون متشبهًا بالشيطان.
قال: "لغير عذر" فهذا العذر مثل لو أن هذا الإنسان كان أقطع يعني له رجل واحدة فماذا يصنع؟
يلبس خفًا في رجله، لو كان هذا الإنسان في رجله الأخرى جبيرة أو ما في معناها فماذا يصنع؟
يخرج بالأخرى من غير نعل لا ينتعل ويكون بذلك معذورًا.
قال: "وكراهة لبس النعل والخف قائمًا لغير عذر"، لماذا؟
بعض أهل العلم قال: من أجل ألا يكون ذلك مدعاة للسقوط، يسقط هذا فيما ليس في لبس النعل الذي يلبسه بيسر وسهولة ولا يحتاج إلى كلفة إنما ذلك لما يحتاج من عمل وتدخل اليد في اللبس بحيث يكون منثينًا فيلبس وهو قائم، يحتاج إلى أن يتدخل بيده، وليس يلبس النعل المعروف وهو قائم فهذا لا إشكال فيه، فهنا قال: "لبس النعل والخف قائمًا لغير عذر"، فإذا كان هذا يحتاج إلى جهد، وتكون يده عاملة معه في ذلك فهذا يجلس، بعض أهل العلم قال: لئلا يقع، وأن الشريعة جاءت بالمحافظة على المسلم، ودفع أسباب الضرر عنه بالكلية.
وبعضهم يقول: إن العلة في ذلك وهذا هو لعله الأقرب -والله أعلم- لما فيه من الهيئة غير المستحسنة، يكون بحال من الانكفاء وتكون هيأته غير مستحسنة، فيجلس ويلبس مع أنه لا يبعد المعنى الأولى أنه قد يقع، تجد بعض الناس يرفع رجله إذا كان يريد أن يتلافى النزول، ولكنه حتى في رفع رجله لا يكون منظره وهيأته حسنه وهو أيضًا عرضه للسقوط، يرفع رجله من أجل أن يعمل بيده ليدخل الخف فيها مثلاً، فورد النهي عن هذا فيترك إذا كان ذلك يحتاج إلى عمل كهذا، فيجلس ويلبس وهو جالس.
وذكر حديث أبي هريرة ، أن رسول الله ﷺ قال: لا يمش أحدكم في نعل واحدة لينعلهما جميعًا أو ليخلعهما جميعًا[2]، يعني يلبس الثنتين معًا أو يخلع الثنتين معًا ويمشي حافيًا، فبعض الناس قد يمشي بواحدة؛ لأنه مثلاً يريد أن يحمل الأخرى ليمسحها مثلاً، أو نحو هذا ويمشي بواحدة فهذا أمر داخل في النهي، وفي رواية: "أو ليحفهما جميعًا"[3]، متفق عليه، طيب لو أنها انقطعت أو ضاعت إحدى النعلين فالذي يظهر أنه لا يلبس واحدة ويمشي بها ويترك لأن النبي ﷺ هنا أطلق قال: لا يمش أحدكم في نعل واحدة، فهذا التركيب بين الفعل ولا الناهية يحمل على العموم.
قال: في نعل واحدة، ولم يقيد ذلك قال لينعلهما جميعًا أو ليخلعهما جميعًا.
وعنه قال سمعت رسول الله ﷺ يقول: إذا انقطع شسع أحدكم فلا يمش في الأخرى حتى يصلحها[4]، رواه مسلم.
وهذا نص فيما ذكرته، انقطع الشسع، الآن انقطع شسع نعله شسع النعل هو ما يكون في مقدم النعل من السيور ما يكون بين الأصبعين، ونحو ذلك، فإذا انقطع هنا عذر في نظره، في نظر هذا الإنسان فلربما مشى بواحدة وحمل الأخرى بيده أو تركها، والواقع أنه ليس بعذر مقبول شرعًا، فيترك النعلين أو ليبلس النعلين، أو يتوقف حتى يصلح هذه التي انقطع شسعها، ثم يمشي بهما جميعًا، فدل على أنه إذا ضاعت إحداهما أو انقطعت أنه لا يمش بواحدة.
قال: وعن جابر ، أن رسول الله ﷺ نهى أن ينتعل الرجل قائمًا"[5]، رواه أبو داود بإسناد حسن، والأصل أن النهي للتحريم.
قد يقول قائل هذه أمور يسيرة، وهنا فقط في هذا الكتاب ذكر ثلاثة أحاديث ورواية على قضية قد يقول البعض: هذه يسيرة، ولكن هذا كما ذكرت في بعض الليالي القريبة الماضية لما أخذ معاوية بن أبي سفيان على المنبر منبر المدينة خصلة حينما حج، وقال: يا أهل المدينة أين علماؤكم؟!
ثم ذكر الحديث عن النبي ﷺ وهو أن بني إسرائيل هلكت بهذا أين علماؤكم؟ سمعت النبي ﷺ ينهى عن مثل هذا، ويقول: إنما هلكت بنو إسرائيل حين اتخذ هذه نساؤهم، هلكوا بسبب قضية، في نظرنا يسيرة، وصل الشعر، هلكت أمة، فالميزان عند الله -تبارك وتعالى- حق وعدل والله يعلم ما يصلح الخلق، وقد شرع لهم هذه الشريعة الكاملة ليحفظ بها الضرورات، والحاجيات، والتحسينيات، وليس لهم بعقولهم القاصرة أن يتدخلوا ويقولوا هذا لماذا؟ وذاك لماذا؟ وهذا ما اقتنعنا فيه، وهذا بين لنا سببه، فهذا سوء أدب من العبد مع ربه -تبارك وتعالى-، إذا كنت تعلم بأن الله عليم حكيم فالعليم هو الذي يعلم الأشياء على حقائقها، والحكيم هو الذي يضعها في مواضعها ويوقعها في مواقعها.
فإذن تتقبل ذلك بصدر رحب وتسر وتفرح وهذا يدل على كمال هذه الشريعة حتى في لبس النعل، والمشي، وانقطاعها، وما إلى ذلك علمنا كيف نتصرف، وما هو الأدب اللائق فأين القوانين الوضيعة؟! والشرائع الأرضية أين هي عن هذا؟ والعجب مما يستبدلون ذلك بغيره من زبالات الأذهان: أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ [البقرة:61]، وللأسف الشديد اليوم تسمع الأصوات تتعالى في بلاد الله الواسعة مضادة لحكم الله وشرعه في مواجهة أولئك النفر الذين يطالبون بحكم الله، وأن يكون شرعه هو السائد وهو الحاكم بين الناس، فتجد من يرفض ذلك بلا مواربة، ويعلن رفضه واستهجانه لهذا الطلب، وكأنه قد طلبوا أمرًا منكرًا، بل صار بعض أهل الصلاح يحرج ولربما يخجل أو يستحي أن يطالب بتحكيم شرع الله -تبارك وتعالى-، فأولئك الذين يعلنون الرفض بتحكيم الشريعة ويأبونها، هؤلاء كفار ولا ينفعهم الانتساب إلى الإسلام ولا التسمي بأسماء كمحمد، وصالح، وخالد، وما إلى ذلك.
من يقول: إنه يرفض تحكيم الشريعة ولا يقبل حكم الله فهو كافر مرتد عن الإسلام، كثر هؤلاء أو قلوا، -والله المستعان-، هذه قضية لا تحتاج إلى دليل، ولا تحتاج إلى بيان، فهي أوضح من الشمس في رابعة النهار، فتجد بعض من ينتسبون للإسلام للأسف يتبجح بهذا ويعلن أحزاب كاملة، تعلن رفضها للشريعة، ونفورها غاية النفور إذا ذكر ذلك: كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ [المدثر:50-51]، والله المستعان، والله أعلم.
- أخرجه الطحاوي في شرح مشكل الآثار (3/386)، برقم (1358)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة، برقم (348).
- أخرجه البخاري، كتاب اللباس، باب لا يمشي في نعل واحدة، برقم (5856)، ومسلم، كتاب اللباس والزينة، باب إذا انتعل فليبدأ باليمين وإذا خلع فليبدأ بالشمال، برقم (2097).
- أخرجه مسلم، كتاب اللباس والزينة، باب إذا انتعل فليبدأ باليمين وإذا خلع فليبدأ بالشمال، برقم (2097).
- أخرجه مسلم، كتاب اللباس والزينة، باب إذا انتعل فليبدأ باليمين وإذا خلع فليبدأ بالشمال، برقم (2098).
- أخرجه أبو داود، كتاب اللباس، باب في الانتعال، برقم (4135)، وابن ماجه، أبواب اللباس، باب الانتعال قائما، برقم (3618)، وذكره الألباني في السلسلة الصحيحة، برقم (719).