الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
ففي هذا الكتاب "باب المنثورات والملح" أورد المصنف -رحمه الله- حديث أبي هريرة عن النبي ﷺ قال: اشترى رجل من رجل عقارًا، فوجد الذي اشترى العقار في عقاره جرة فيها ذهب، فقال له الذي اشترى العقار: خذ ذهبك إنما اشتريت منك الأرض، ولم أشتر الذهب، وقال الذي له الأرض: إنما بعتك الأرض، وما فيها، فتحاكما إلى رجل، فقال الذي تحاكما إليه: ألكما ولد؟ قال أحدهما: لي غلام، وقال الآخر: لي جارية، قال: انكحا الغلام الجارية، وأنفقوا على أنفسهما منه، وتصدقا[1] متفق عليه.
هذا الحديث الصحيح الثابت يحكي فيه النبي ﷺ ويقص على أمته خبر هؤلاء ممن قبلنا، فهؤلاء ليسوا من هذه الأمة، ومثل هذه الأخبار حينما يذكرها القرآن، أو حينما يذكرها النبي ﷺ فإنما يذكر ذلك لما فيه من العبرة والعظة، أما العمل بمقتضى ذلك من جهة التشريع، فهذا مبناه على أصل معروف، وقاعدة، وهي: هل شرع من قبلنا شرع لنا أم لا؟
والعلماء في ذلك على قولين معروفين: منهم من يقول: هو شرع لنا ما لم ينسخ في شرعنا، ويستدلون على هذا بمثل قوله -تبارك وتعالى- في سورة الأنعام لما ذكر الله الأنبياء: وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ [الأنعام:84] إلى آخر من ذكر الله -تبارك وتعالى- قال: أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ [الأنعام:90].
قالوا: النبي ﷺ مأمور بالاقتداء بهم، ما لم ينسخ، وبعضهم يقول: ليس بشرع لنا إلا ما جاء في شرعنا تقرير له، وعلى هذا يكون من قبيل تحصيل الحاصل، يعني: أنه إنما يعمل به؛ لأنه جاء في شرعنا.
هذا الحديث، والذي بعده، هو من باب الأقضية، قضاء الحكم بين الناس في وقائع قصها النبي ﷺ عمن قبلنا، فهذا رجل اشترى من رجل عقارًا، والعقار يقال لكل الأصول الثابتة، مثل: الأرض، والمزرعة، والدار، وما إلى ذلك، هذا كله يقال له: عقار اشترى من رجل عقارًا، فوجد الذي اشترى العقار في عقاره جرة فيها ذهب.
الجرة: معروفة، وجد ذلك في العقار، انظروا إلى النزاهة، والورع، والتجرد، والزهد، وقلة التهافت على الدنيا، وترك الطمع، تصور لو كان هذا وقع لواحد منا، بعت أرضًا، أو دارًا، أو نحو ذلك، فوجد فيها جرة، رجل باع مزرعة، باع عمارة، وجد المشتري فيها جرة من ذهب، وعلم البائع، ماذا يفعل المشتري؟ وماذا يفعل البائع؟ وهل المشتري سيخبر البائع أم لا؟
حفر فوجد جرة من ذهب، لربما يخفيها عن نفسه، وليس فقط عن البائع، فهذا وجد جرة فيها ذهب، فقال له الذي اشترى العقار، يقول للبائع: خذ ذهبك إنما اشتريت منك الأرض يعني: ذهب إليه، وقال له: أنا وجدت فيها ذهبًا، وهذا الذهب لك، خذ ذهبك، فأضافه إليه، ما قال: خذ هذا الذهب وخلصني منه، تصرف فيه، ابحث عن صاحبه، لا، خذ ذهبك، بأي اعتبار؟
قال: إنما اشتريت منك الأرض أنا ما اشتريت ذهب، أنا العقد الاتفاق، وقع على أرض، فهذه الصيغة الظاهرة، ولم أشتر الذهب، وقال الذي له الأرض: إنما بعتك الأرض، وما فيها الإنسان إذا ملك الأرض ملك باطنها، وملك أيضًا سماءها، له أن يبني علوًا فيما لا يؤذي الآخرين، فالشاهد: أنه قال: أنا بعتك الأرض، وما فيها هذا كل واحد الآن يدفع هذا الذهب عن نفسه، يقول: لا حق لي فيه.
فتحاكما إلى رجل طبعًا شرع من قبلنا شريعتهم تختلف، يعني نحن في هذه الشريعة إذا وجد مثل هذا هذا يكون من قبيل الركاز، فهذا الركاز يعني هذا الكنز ينظر، إن كان فيه أمارات تدل على أنه إسلامي، يعني مثلاً قبل مائتين سنة، ثلاثمائة سنة، أربعمائة سنة، خمسمائة، ألف سنة، هذا إسلامي، هذا يكون ليس من باب الركاز الذي يملكه الإنسان، ويخرج القدر الواجب فيه، ولكن ما وجد من دفائن الجاهلية هو الذي يملكه من وجده، ويخرج حق الله فيه.
الشاهد: أنهم تحاكموا إلى رجل، فقال الذي تحاكما إليه، الآن كل واحد يقول: أنا ما لي حق فيه، وهذا لا يريد هذا المال، أين يذهب؟ هو إما للبائع وإما للمشتري، فقال الذي تحاكما إليه: ألكما ولد؟ قال: أحدهما لي غلام والغلام يقال: للصغير، ويقال للفتى الذي اكتمل، واشتد قوة، وشبابًا، قال: لي غلام وقال الآخر: لي جارية وهي البنت قال: انكحا الغلام الجارية، وأنفقوا على أنفسهما منه، وتصدقا.
يعني أنفقوا، اجعلوه للغلام والجارية في تجهيزيهما، وبهذا يكون هذا المال لم تأخذه، ولم يأخذه هذا، وإنما صار نفعه للولد والبنت، وتصدقا، هذا لفظ البخاري، وفي لفظ الآخر: وتصرفا.
فعلى كل حال هنا تصدقا يعني منه من هذا المال، زوجوا به الولد والبنت، وتصدقوا منه، هذا في شرع من قبلنا، أما في هذه الشريعة، فالحكم يختلف، لكن العبرة في هذا من جهة هذا التدافع، والنزاهة، وقلة الطمع، فيوجد في الأمم السابقة، من كانوا من أهل الصلاح، والتقوى، والورع، والقناعة الكاملة، كما قال الله : لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ [آل عمران:113-114] إلى آخر ما ذكر الله عن هذه الطائفة منهم قبل مبعث النبي ﷺ هذا من جهة، ومن جهة أخرى أيضًا، وهو مسألة الأحكام التي لربما يكون فيها شيء من الذكاء، أو حل المشكلات بطريقة لربما فيها شيء من الحكمة، وتتقبلها النفوس، هذا بالنسبة لشرع من قبلنا.
وعنه أنه سمع رسول الله ﷺ يقول: كانت امرأتان معهما ابناهما، جاء الذئب فذهب بابن أحداهما، فقالت لصاحبتها: إنما ذهب بابنك، وقالت الأخرى: إنما ذهب بابنك وهذا قد يحصل فيه أيضًا شيء من الاشتباه، والالتباس، وإن كانت كل واحدة تعرف ولدها تمامًا، لكنه هذا لا يكون في الكبار، وإنما يكون غالبًا فيمن يكون حديث الولادة فتحاكما إلى داود فقضى به للكبرى بناء على أي شيء؟ هنا لم يذكر النبي ﷺ ذلك، لكن لربما كان بيد الكبرى، وصارت الصغرى مدعية، والنبي ﷺ كما قال: البينة على المدعي، واليمين على من أنكر[2].
فهذه الذي هو بيدها هي أقوى، من جانب أن يدها على هذا المدعى، وتلك ليس بيدها شيء، فصار ما عندها إلا الدعوى، فتطالب بالبينة، اليمين إنما تكون في جانب الأقوى من المتخاصمين، فلما كان هذه في يدها الولد ربما كانت اليمين معها، الشاهد: أنه قضى به للكبرى قد يكون لهذا السبب، يعني داود نبي، وآتاه الله الحكمة، وملك ما يمكن أن يقضي هكذا به من غير سبب فخرجتا على سليمان بن داود فأخبرتاه، فقال: ائتوني بالسكين أشقه بينهما الآن هو قضي به للكبرى، والكبرى ليست بأمه في الحقيقة فأخبروه بهذا الحكم، فقال: هاتوا السكين السكين معروفة، وبعضهم يقول قيل لها: السكين؛ لأنه يسكن بها المذبوح، وبعضهم يقول: أصلها غير عربي، ومن ثم لا تعلل- فقالت الصغرى: لا تفعل -رحمك الله- هو ابنها، فقضى به للصغرى متفق عليه[3].
يعني الكبرى كانت موافقة ما عندها مانع أن يقطع نصفين؛ لأن ولدها قد ذهب، فمن أجل أن تشترك معها في المصيبة، وهي ماذا عساها أن تستفيد إذا قطعه بينهما؟ ومع ذلك كانت ساكتة، ومقرة الكبرى، أما الصغيرة فتقول: لا تفعل يرحمك الله، هو لها، هو ابنها، خائفة عليه، فهذه القرينة ليست بينة، ولكنها من قبيل القرائن، والقرائن قد يعمل بها إذا عدمت البينات، والشهود، فيؤخذ بالقرائن، فسليمان نظر إلى هذا.
وكما في خبر الغنم التي نفشت في زرع، والله -تبارك وتعالى- أخبر أنه حكم بها داود، وحكم بها سليمان، قال: فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلاً آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا [الأنبياء: 79] فداود آتاه الله من الحكم والعلم، ولم يكن ذلك نقيصة فيه، ولكنه في هذه القضية في هذه المسألة ألهم سليمان، وفتح عليه بهذا الحكم، وكما هو معلوم أن ذلك لا يقتضي الانتقاص، كما لا يقتضي التفضيل مطلقًا، يعني لكونه أصاب في حكم معين، لا يقتضي أنه أصوب في حكمه مطلقًا من داود من مجرد هذه القضية.
فالحاصل: أن القرائن يعمل بها إذا عدمت البينات، والشهود، ولهذا هذا له أمثلة كثيرة جدًا تكلمنا عليها، أو على بعضها في كتاب طريق الوصول إلى العلم المأمول، يحصل أحيانًا الإنسان يتداعى رجل مع آخر في غنم، هذا يقول: لي، وهذا يقول: لي، فتطلق هذه الغنم، وينظر أين تذهب؟ فإن ذهبت مباشرة إلى بيت أحدهما، فهذه الغنم لا يمكن أن تلقن، فيقال: في تواطؤ في هذه القضية، فهي تذهب تلقائيًا إلى المكان الذي عهدته، وعرفته، وألفته، فهذه قرينة على أن هذه الغنم لهذا الرجل، في قرائن أخرى: تداعيا أخذت هذه الغنم، ووضعت في مكان، في حجز، أحدهما كان يأتيها بأحسن العلف كل يوم، ويتعهدها صباح مساء، والثاني ما يأتي، ولا يسأل، كل الأيام التي كانت محجوزة فيها ما جاء، ولا مرة إليها، فقط يذهب إلى المحكمة، ويأتي معه بشهود، أو غير ذلك مما يحاوله، فهذه قرينة على أنها لهذا الرجل، إذا مرض بعضها، أصيب، جرح كسر، يأتي، ويرممه، ويجبره، هذه كلها تدل على أنها لأحدهما.
هنا السؤال ما له علاقة بالموضوع.
يقول: هذا القاضي المتخرج من كلية الحقوق، ويقضي بين الناس بالقانون الوضعي: فهل يشمله حديث الوعيد للقاضيين الذين في النار، وخاصة ما نشاهده من بعض القضاة، الذين يتعاونون مع أعداء الشريعة المنافقين، كما هي الحال في مصر؟
على كل حال، الذي لا يقضي بشرع الله هذا إن كان لا يعلم، فهو أيضًا داخل في قوله: القضاة ثلاثة وذكر قاضيين في النار[4] فهذا الذي جهل الحق، ومن ثم لم يعمل بمقتضاه، هو جاهل لا يعرف أحكام الشريعة، وإنما درس القوانين، وإن كان يعلم الحق، ولكنه خالفه فهذا أيضًا لا يقل عن الأول، بل هو أشد منه، عرفه ثم تركه، فهو داخل في هذا كذلك، وإنما الواجب أن يحكم بشرع الله وأن يكون ذلك بعلم، وليس بجهل، ولو وافق الحق، فوقع عليه من غير الطريق الذي يتوصل به إليه، يعني رمية من غير رامي، فهذا مذموم، والله أعلم.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
- أخرجه البخاري، كتاب أحاديث الأنبياء، باب حديث الغار، برقم (3472) ومسلم، كتاب الأقضية، باب استحباب إصلاح الحاكم بين الخصمين، برقم (1721).
- أخرجه البيهقي في معرفة السنن والآثار، كتاب الشهادات، باب القضاء باليمين مع الشاهد، برقم (20026)، وصححه الألباني في مشكاة المصابيح، برقم (3758).
- أخرجه البخاري، كتاب أحاديث الأنبياء، باب قول الله تعالى: {ووهبنا لداود سليمان نعم العبد إنه أواب} الراجع المنيب "، برقم (3426) ومسلم، كتاب الأقضية، باب بيان اختلاف المجتهدين، برقم (1720).
- أخرجه أبو داود في سننه، كتاب الأقضية، باب في القاضي يخطئ، برقم (3573) وصححه الألباني في مشكاة المصابيح، برقم (3735).