الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
ففي باب فضل قراءة القرآن قال المصنف -رحمه الله-:
"وعن ابن مسعود قال: قال رسول الله ﷺ: من قرأ حرفًا من كتاب الله فله حسنة، والحسنة بعشر أمثالها لا أقول: ألم حرف، ولكن: ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف[1]، رواه الترمذي، وقال: حديث حسن صحيح".
قوله ﷺ: من قرأ حرفًا من كتاب الله فله حسنة لكن ما المراد بالحرف؟ أكثر أهل العلم فسروه بالحرف المعروف، وهي حروف التهجي، ولا شك أن ذلك يقال له: حرف.
وعلى هذا يكون الثواب المرتب على ذلك كثير جدًا، فإذا كانت حروف القرآن، تزيد على ثلاثمائة وعشرين ألف حرف، فمعنى ذلك: أنه حينما تضرب هذا العدد بعشرة؛ عشر حسنات، في كل حرف منها تقرأه، فإن النتيجة تكون: ثلاثة ملايين ومائتي ألف حسنة، وأكثر من ذلك لكن هذا إذا قلنا: بأنها ثلاثمائة ألف ومائتين، فعندئذٍ يكون العدد هو هذا، فحروف القرآن ثلاثمائة وعشرين ألف، تضربها بعشرة، تطلع ثلاثة ملايين ومائتي ألف حسنة، فهذا رقم كبير، في الختمة الواحدة، ولو أن الإنسان قيل له: بأن تكسب ثلاثة ملايين ريال إذا جلست يومًا تعمل عملاً من الأعمال، فإن الإنسان لن يتخلف عن ذلك، والإنسان يستطيع أن يختم في ست ساعات، فهذا شيء يكثر التفريط فيه.
وإذا قلنا: بأن الحرف هنا بمعنى الكلمة، كما يقول بعض أهل العلم، كشيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- قال: ذاك هو المعهود في كلامهم واصطلاحهم، فإنهم يقولون: كيف تقرأ هذا الحرف؟ يعني: كيف تقرأ هذه الكلمة؟ قال: وقوله ﷺ: لا أقول: ألف لام ميم حرف، وإنما أقول: ألف لم يقل: أ، وإنما قال: ألف، فنطقها كما تنطق الكلمة، ثلاثة أحرف، فهذه يقال لها: أسماء الحروف، أما الحرف، فيقال: أ، ب، ت، ونحو ذلك[2].
وهنا قال: "ألف، لام، ميم" قال: فهذه كلمات، وليست حروف، وعلى هذا فكلمات القرآن سبعة وسبعين ألف وأربعمائة وتسعة وثلاثين كلمة تقريبًا، فإذا ضربتها بعشرة كانتا النتيجة سبعمائة وأربع وسبعين ألف وثلاثمائة وتسعين حسنة، وفضل الله واسع، ولا يحجر، ونرجو أن من قرأ القرآن أن يكتب له بكل حرف من حروف التهجي عشر حسنات، والله يضاعف لمن يشاء.
فهنا قال: والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول: ألف لام ميم حرف، ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف.
ثم قال المصنف:
"وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله ﷺ: إن الذي ليس في جوفه شيء من القرآن، كالبيت الخرب[3]، رواه الترمذي، وقال: حديث حسن صحيح".
هذا الحديث لا يصح، ضعيف، ولا حاجة للتشاغل بشرحه.
ثم قال المصنف:
"وعن عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما- عن النبي ﷺ قال: يقال لصاحب القرآن: اقرأ وارتق ورتل كما كنت ترتل في الدنيا، فإن منزلتك عند آخر آية تقرؤها[4] رواه أبو داود، والترمذي، وقال: حديث حسن صحيح".
هذا الحديث هو الأخير في هذا الباب.
يقال لصاحب القرآن: اقرأ وارتقِ كما سبق في ليلة مضت في التعليق على جملة: "صاحب القرآن" فإن ذلك لا يقال للذي لا يقرأ القرآن إلا إذا دخل المسجد قبل الإقامة بثلاث دقائق، أو نحو ذلك، وإنما من كان ملازمًا لقراءته، مشتغلاً به، مقبلاً عليه، فهذا هو صاحب القرآن.
لكن هل يشترط أن يكون حافظًا؟ هذا الظاهر -والله تعالى أعلم-؛ لأنه يقال له: اقرأ وارتقِ ورتل كما كنت ترتل في الدنيا، فإن منزلتك عند آخر آية تقرأها عند آخر آية يعني من حفظه، فهذا هو الظاهر.
وأما القراءة من المصحف، فمعنى ذلك أن الجميع سيقرأ القرآن كله.
ومن أهل العلم من يقول: بأن المقصود هنا القراءة، لكن لمن كان مشتغلاً بالقرآن، ملازمًا له.
وبعضهم يقول: من كان يعمل بالقرآن ويتدبره، فإنه يقال له ذلك تكريميًا وتفضيلاً، فيقرأ، ولا يقيد ذلك بالحفظ، فيرتقي بهذه القراءة.
ومن يقول بهذا من المعاصرين الشيخ محمد الصالح العثيمين -رحمه الله-[5].
والذي أظنه أقرب -والله أعلم- أن هذا يختص بالحافظ، كما يدل عليه أو يشعر به ظاهر قوله: فإنما منزلتك عند آخر آية تقرأها وليس الحافظ فقط، وإنما الحافظ المقبل على القرآن، المشتغل به؛ لأنه لا يكون صاحب قرآن، وهو حفظه ثم ترك، ولا يقرأ ولا يتدبر ولا يقبل عليه، ولا يعطيه من وقته، فهذا ليس بصاحب للقرآن، وإنما الصاحب هو الملازم للشيء، المقبل عليه، المؤثر له على غيره، فهنا يقال له: اقرأ وارتقِ والقراءة هنا ليس المقصود بها التعبد، فإن الآخرة ليست دارًا للعمل، وإنما هي دار للجزاء، وإنما مثل هذه القراءة تكون كذكر الله لأهل الجنة، فإنهم يلهمون التسبيح، فلا يجدون فيه كلفة، ولا مشقة، فيكون ذلك منهم على سبيل الالتذاذ، يتلذذون بقراءة القرآن، ويتلذذون بذكر الله -تبارك وتعالى-، ولا يقرأون من أجل تحصيل الأجور، ولا أن ذلك من جملة التكاليف، فالتكليف ينتهي تمامًا بمجرد ما تفارق الروح الجسد، وينتقل إلى دار الجزاء، وأول ما يلقى في البرزخ سؤال الملكين، ونحو ذلك.
فهنا يقال له: اقرأ وارتقِ يعني: في درجات الجنة ورتل كما كنت ترتل في الدنيا وهذا يدل على فضل الحفظ إذا حمل هذا على الحفظ، وفضل القرآن، وما يكون لأهله وأصحابه في الآخرة، يرتقون درجات، وكم بين الدرجة والدرجة في الجنة، شيء لا يقادر قدره، فإذا كان هذا التفاضل الذي يتغابط ويتحاسد عليه الناس في الدنيا، بأن هذا أكثر من هذا، بحفنة من المال، فكيف بالآخرة؟! فإنها أكثر تفضيلاً وتفاوتًا بين الناس.
فنسأل الله أن يجعلنا وإياكم من أهل القرآن، وأن يجعله شفيعًا لنا، وحجة لنا، لا حجة علينا.
اللهم ارحم موتانا، واشف مرضانا، وعاف مبتلانا، واجعل آخرتنا خيرًا من دنيانا.
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه.
- أخرجه الترمذي ت شاكر في أبواب الأمثال، باب ما جاء فيمن قرأ حرفاً من القرآن ماله من الأجر برقم (2910).
- الرد على المنطقيين (ص:129).
- أخرجه الترمذي ت شاكر في أبواب فضائل القرآن برقم (2913) وصححه الألباني.
- أخرجه الترمذي ت شاكر في أبواب فضائل القرآن برقم (2914) وأبو داود في باب تفريع أبواب الوتر، باب استحباب الترتيل في القراءة برقم (1464) وأحمد ط الرسالة برقم (6799) وصححه الألباني، وقال محققو المسند: "صحيح لغيره".
- فتاوى نور على الدرب - لابن عثيمين (111/26).