الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعدُ:
ففي باب فضل صلاة الجماعة، أورد المصنف -رحمه الله- حديث أبي هريرة قال: "أتى النبي ﷺ رجل أعمى، فقال: يا رسول الله، ليس لي قائد يقودوني إلى المسجد، فسأل رسول الله ﷺ أن يرخص له، فيصلي في بيته، فرخص له، فلما ولى، دعاه، فقال له: هل تسمع النداء بالصلاة؟ قال: نعم، قال: فأجب[1] رواه مسلم.
هذا الحديث أصل عظيم في بابه، وهو حكم صلاة الجماعة، هل هي واجبة، أو ليست بواجبة؟ النبي ﷺ جاءه رجل أعمى، بعضهم يقول: هو ابن أم مكتوم، وسيأتي حديثه، مع أن السياق مغاير لسياق حديث ابن أم مكتوم؛ ولهذا رجح الحافظ ابن حجر -رحمه الله- أنه غير ابن أم مكتوم، وقال: إلا أن تكون الواقعة أخرى، يعني: أنها تعددت، مع ابن أم مكتوم، مع أن هذا مستبعد؛ يعني: حينما جاء ولم يرخص له النبي ﷺ، فيبعد أنه يأتي مرة ثانية ويطلب الترخيص، مع أنه غير ممتنع، لكنه بعيد، والله أعلم، الشاهد: أن المبهم ليس بحاجة إلى معرفته، المقصود وصف، فهو رجل أعمى.
فقال: "يا رسول الله ليس لي قائد يقودوني إلى المسجد" نقول: الأعمى إن كان له قائد فهو بمنزلة العين ينظر له الطريق، ويتعرف على ما فيها من المخاطر، لكن قواه تحمله -أعني الأعمى- تحمله إلى المسجد ليس به عجز على المشي والانتقال والحركة، فإذا وجد القائد كأنه مبصر، لا فرق، فقال هنا: "ليس لي قائد يقودوني" تصور البيئة في ذلك الوقت في المدينة، لا طرق مرصوفة، كما نعيش الآن، تصور بيئة أصلاً إذا غابت الشمس ظلام، ومليئة بالحجارة والصخور، ولا يوجد بلدية تَقُمّ الطرقات والشوارع، وآثار الدواب -أكرمكم الله- على الأرض كما هي الحياة سابقًا، لك أن تتصور، وأن تطلق الخيال لتتصور حياة هكذا كان الناس فيها يعيشون، على الدواب يتنقلون، والبهائم تسرح في الطرقات، والطرقات مليئة بالحجارة، وما يعترض من أشجار، وغير ذلك إضافة إلى أن المدينة تحيط بها ثلاث حرات، والحرة: هي عبارة عن صخور بركانية، إذا أقبلت على المدينة بالطائرة انظر إلى أسفل تجد سواد يحيط بالمدينة فاحم، وكانت منازل الأنصار من الأوس والخزرج مفرقة في نواحي المدينة، وقد تكون هذه المساكن بعيدة، ودونها أودية، والأودية في المدينة كثيرة جدًا، ومتشعبة، وتلتقي في مجمع الأسيال، فتصور في هذه البيئة، وهذا رجل أعمى، وليس له قائد، ثم يأتي إلى النبي ﷺ ويذكر له هذا العذر، يقول: "ليس لي قائد يقودوني إلى المسجد" ما احتاج أن يقول: أنا أعمى؛ لأن النبي ﷺ يراه، فالحال أبلغ من المقال.
"فسأل رسول الله ﷺ أن يرخص له، فيصلي في بيته" لاحظ يرخص، والرخصة هنا هي الرخصة المعروفة عند الأصوليين والفقهاء، وهي الحكم الذي غُيِّر من صعوبة إلى سهولة لعذر مقرر في الشرع، يعني: هذه غير رخص الفقهاء، ما المقصود برخص الفقهاء التي قالوا فيها: من تتبع الرخص تزندق، وإنك إن أخذت برخصة كل عالم اجتمع فيك الشر كله؟ ما المقصود بها؟ المقصود بها: الأشياء التي سوغها، أو أجازها، أو أباحها بعض الفقهاء؛ لتأويل أو لنظر، أو لغير ذلك، مثلاً يأتي لهذا ويقول: هذا فلان أباح الغناء أنا سآخذ بقوله، وفلان أباح التدخين أنا سآخذ بقوله، وفلان أباح الخمر النبيذ من غير عصير العنب سآخذ بقوله، وفلان قال: بأن الفخذ ليس بعورة، فأنا سألبس لباس رياضي قصير، وفلان أباح النظر إلى الأجنبية إن كانت صورة غير واقعية، يعني: صورة مصورة، وليست في الشارع امرأة تمشي، وهذا فلان أباح أنواع من الربا والمعاملات المحرمة المالية، ويجمع من هذا، ومن هذا، ومن هذا، فينسلخ من الدين، هذه التي يقال: لها رخص الفقهاء، ويقولون عنها: تتبع الرخص، لا يجوز حرام، فهذا الإنسان لا تبرأ ذمته عند الله ؛ لأن الحكم عند الله واحد، فيجب عليه أن يتحرى، فإن كان من العامة فيجب أن يسأل ويستفتي من يثق بدينه وورعه وعلمه، وإلا ما تبرأ ذمته، يعني: يبحث عما يوافق هواه، أو فلان الذي يقول: إنه مرن، وأنه متساهل، أو متسامح، أو أنه ما هو متشدد، وطالبات في المتوسط يصنفن أهل العلم: فلان متشدد، وفلان متساهل، وفلان معتدل.
فالمقصود: أن الرخصة هنا غير الرخصة التي يتكلمون عنها في مسائل تتبع الرخص، الرخصة هنا هي حكم غُيّر من صعوبة إلى سهولة لعذر معتبر شرعًا، مثل سافر في رمضان الفطر رخصة، رخصة من أين؟ من الله، فإذا زال العذر رجع الحكم إلى حاله، هذا هو مقصود الرخصة هنا.
ما وجد الماء له رخصة أن يتيمم، وُجد الماء يرجع إلى الوضوء -الطهارة المائية-، وهذا الإنسان لا يستطيع أن يصلي قائمًا، والقيام ركن في الفرض، فله أن يصلي جالسًا، أو على جنب هذه رخصة، فإذا زال العذر صلى قائمًا، هذه رخص الشارع غير رخص الفقهاء.
وهنا طلب من النبي ﷺ أن يرخص له، فيصلي في بيته، وقلنا: الرخصة حكم حول من عزيمة إلى الرخصة، معناها: أن صلاة الجماعة عزيمة، واجبة، وأنها الأصل، والتحول منها لعذر إلى الصلاة في البيت يعتبر رخصة للعاجز، هذا الملحظ في هذا الحديث.
"فرخص له، فلما ولى دعاه فقال له: هل تسمع النداء بالصلاة؟ قال: نعم، قال: فأجب" إذًا هذا هو الضابط في هذه المسألة هل تسمع النداء بالصلاة؟ النداء يعني: الأذان، فيقال: كل من يسمع الأذان من غير مؤثرات سلبًا أو إيجابًا، يجب عليه أن يجيب، والمؤثرات الإيجابية: مثل مكبرات الصوت هذا غير معتبر، والسلبية كالضوضاء وأصوات السيارات وأصوات مصانع وأصوات الورش، هذه تحول أحيانًا دون السماع، لكن لو فرضنا أنها بيئة صافية، وقام المؤذن وأذن على سطح المسجد مثلاً من غير مكبر، فالمدى الذي يصله صوت المؤذن في بيئة هادئة وادعة يجب عليهم أن يجيبوا المؤذن، وأن يصلوا في المسجد، وليس لهم رخصة إلا من كان عاجزًا، فهنا "قال له: هل تسمع النداء بالصلاة؟ قال: نعم، قال: فأجب" لاحظ مع أنه أعمى، وليس له قائد، تصور رجل يمشي ويتوقع أنه يسقط في أي لحظة، واليوم لو في ناس عندهم إنسان بهذه المثابة ويصر وليس له قائد
أن يخرج في بيئة مثل هذه مليئة طرقاتها بالأحجار والأشجار والهوام، وغير ذلك؛ لقالوا: هذا نوع من التكلف والتشدد، وتحميل النفس ما لا تحتمل، هذا النبي ﷺ هو الذي أمره بذلك، فدل هذا على وجوب صلاة الجماعة.
طيب الذين قالوا: إن صلاة الجماعة لا تجب على الإنسان بماذا يجيبون عن مثل هذا الحديث؟ يقولون: قال له: أتسمع النداء؟ قال: نعم، قال: فأجب يعني: إن أردت أن تدرك الفضيلة، ما شاء الله! الرجل يريد أن يرخص له، وهذه حاله، قال: أتسمع النداء؟ بعدما رخص له، قال: نعم، قال: فأجب فيقدر هنا هذا التقدير البعيد: إن أردت أن تدرك الفضيلة، لو كانت المسألة فضيلة ما جاء يستأذن النبي ﷺ، فالجواب في غاية الضعف.
وبعضهم يقول: الذي يدل على عدم الوجوب، هو حديث عتبان، وأصله في الصحيحين: لما دعا النبي ﷺ، وطلب منه أن يصلي له في مكان في بيته، من أجل أن يجعله مصلى[2]، روايات الحديث إذا تتبعتها في الصحيحين وجدت عذره هناك، وهو أنه كان يصلي لقومه، ولكنه أحيانًا يحول بينه وبين مسجدهم السيول، يعني: يكون بينه وبين قومه وادي، إذا جاء السيل، فما يستطيع الذهاب، فعندها يصلي في بيته، فالذين قالوا: إن حديث عتبان يدل على أن حضور الجماعة لا يجب، حيث رخص له، وصلى له في مكان في بيته بناء على طلبه من أجل أن يتخذه مصلى في بيته، قالوا: كيف يتخلف عن الجماعة؟ نقول: نفس الحديث فيه ما يدل على السبب، وهو أنه إذا جاء السيل حال بينه وبينهم، لا يستطيع أن يذهب إليهم، فهنا يريد مكانًا يصلي فيه في مثل هذه الحالة، فهذا يدل على أن صلاة الجماعة واجبة.
وذكر الحديث الآخر، وهو حديث عبد الله، وقيل: عمرو بن قيس، المعروف بابن أم مكتوم، المؤذن، أم مكتوم هذه اسمها: عاتكة، وعبد الله بن أم مكتوم، وكثير من أهل العلم يقولون: عمرو بن أم مكتوم، واستدلوا على هذا بأن النبي ﷺ كما في حديث فاطمة بنت قيس لما أمرها النبي ﷺ أن تعتد في بيت ابن عمها انتقلي إلى بيت ابن عمك عمرو بن أم مكتوم، فاعتدي عنده[3]، أو كما قال -عليه الصلاة والسلام-، فسماه عمروًا، فهنا قال: "يا رسول الله إن المدينة كثيرة الهوام والسباع" الهوام: مثل الحيات والعقارب، والحشرات المؤذية، والسباع معروفة، كل ذي ناب يعدو به على الناس، يعني: مفترس فهو من السباع، البعير له ناب، لكنه لا يعدو به، يعني: لا يهاجم ولا يفترس بنابه، فالهوام والسباع كثيرة، وهو رجل أعمى، فقال ﷺ: تسمع حي على الصلاة حي على الفلاح؟ فحي هلا[4] يعني: فأجب، لاحظ أعمى، والمدينة كثيرة السباع والهوام؛ وذاك يعتذر أنه ليس له قائد يقوده، ويقول: أجب، فكل هذا يدل على الوجوب، فقوله: حي هلا تعال، وهذا محمول على الوجوب، فإذا كان النبي ﷺ ما رخص لهؤلاء ممن ابتلي بالعمي، مع أن المشقة، وحال المدينة ما تخفى في ذلك الوقت، فكيف بغيرهم من المبصرين الأقوياء حين يصلون في بيتهم؟
والله أعلم.
وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.
- أخرجه مسلم في باب كتاب المساجد ومواضع الصلاة يجب إتيان المسجد على من سمع النداء (653).
- أخرجه البخاري في كتاب الأذان، باب من لم ير رد السلام على الإمام واكتفى بتسليم الصلاة برقم (840) ومسلم في المساجد ومواضع الصلاة، باب الرخصة في التخلف عن الجماعة بعذر برقم (33).
- أخرجه مسلم في كتاب الطلاق، باب المطلقة ثلاثاً لا نفقة لها برقم (1480).
- أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة، باب في التشديد في ترك الجماعة برقم (553) وصححه الألباني.