الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
ففي "باب فضل الصف الأول والأمر بإتمام الصفوف الأول، وتسويتها، والتراص فيها" أورد المصنف -رحمه الله- حديث عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- أن رسول الله ﷺ قال: أقيموا الصفوف، وحاذوا بين المناكب، وسدوا الخلل، ولينوا بأيدي إخوانكم، ولا تذروا فرجات للشيطان، ومن وصل صفًا وصله الله، ومن قطع صفًا قطعه الله[1]، رواه أبو داود، بإسناد حسن.
قوله ﷺ: أقيموا الصفوف بمعنى: التسوية، وحاذوا بين المناكب وهذا من تسوية الصفوف، ومن أعظم ما يتحقق به ذلك -كما سبق- المحاذاة بين المناكب، فيحصل به التسوية، ويحصل به التراص.
قال: وسدوا الخلل يعني: ما يكون بين الصفوف من فجوة، ومسافة وفراغ ولينوا بأيدي إخوانكم يعني: إذا دعوكم إلى ذلك في تسوية الصف أن تتقدم أو تتأخر، أو أن تقترب، أو نحو ذلك، فلا ينبغي للإنسان أن يأبى، أو يأنف، أو يمتنع.
ولا تذروا فرجات للشيطان فإن مثل هذه الفرجات يتخلل منها الشياطين، كما سيأتي في حديث آخر، وكذلك أيضًا تكون سببًا لما سبق من اختلاف القلوب، وأن ذلك باب للشيطان يدخل على المصلين منه.
ومن وصل صفًا وصله الله، ومن قطع صفًا قطعه الله وهذا أيضًا مما يدل على وجوب تسوية الصفوف، فإن من تسويتها الوصل الذي يكون لما قد يعتورها من خلل.
من وصل صفًا وصله الله وصله بفضله وألطافه وبره وجوده ومن قطع صفًا قطعه الله وهذا دليل واضح على الوجوب، والله تعالى أعلم.
واستدل بهذا بعض أهل العلم على أنه لا يجوز للإنسان حينما يأتي والصف قد اكتمل أن يجر أحد المصلين ليصلي معه؛ لأن النبي ﷺ قال: لا صلاة للذي خلف الصف[2]، فما العمل؟
العمل ليس على أن يأتي ويجر أحدًا من الصف، فيحصل فيه قطع، والنبي ﷺ يقول: ومن قطع صفًا قطعه الله فالعمل أن ينتظر، ويحاول أن يرص الصفوف، وأن يقارب بين المصلين؛ ليجد مكانًا، فإن لم يجد، فإنه يقف وينتظر، حتى يأتي آخر، فيصلي معه، وهذه المسألة فيها خلاف معروف، ولكن هذا ظاهر قول النبي ﷺ: لا صلاة للذي خلف الصف والأصل أن يحمل النفي لا صلاة على نفي الصحة، ولا يحمل على نفي الكمال إلا لدليل، والذين حملوه على نفي الكمال استدلوا بحديث أبي بكرة؛ لما كبر وركع قبل أن يدخل في الصف[3]، قالوا: معنى ذلك أنه كبر وحده، ولكن الواقع أنه لم يكبر وحده، وإنما كبر في حال هو جزء من الصف الذي أمامه؛ ليدخل فيه، لكنه كبر قبل الدخول، فلا يقال: إنه مصطف وحده، منفرد خلف الصف، ليس بمنفرد.
وبعض أهل العلم يقول: ما أمكنه أن يرص الصفوف، فما وجد مكان، فإن الواجب يسقط حال العجز، ويجوز له أن يصلي وحده.
ولكن الحديث ليس فيه تفصيل لا صلاة للذي خلف الصف ولم يقل: إذا ما وجد، أو إلا في حالة كونه كذا، والأصل بقاء العام على عمومه، والمطلق على إطلاقه إلا لدليل، والله تعالى أعلم؛ ولذلك ينبغي للإنسان أن يحتاط لصلاته، فلا يدخل مع الإمام، وهو يصلي وحده في الصف، طيب قد تفوته الجماعة، وقد لا يتوقع مجيء آخرين، وقد يكون في آخر ركعة، والإمام راكع، نقول: انتظر، والله لا يضيع من أجرك شيئًا؛ لأنك مستجيب لرسوله ﷺ بهذا الفعل، وهذا خير من أن يعرض الإنسان صلاته للبطلان، بناء على حديث: لا صلاة إذا حملناه على نفي الصحة، والله تعالى أعلم.
ثم ذكر حديث أنس أن رسول الله ﷺ قال: رصوا الصفوف، وقاربوا بينها، وحاذوا بالأعناق، فو الذي نفسي بيده، إني لأرى الشيطان يدخل من خلف الصف، كأنها الحذف[4]، هنا ضبطها (الحَذَف) قال: حديث صحيح، رواه أبو داود، بإسناد على شرط مسلم.
وهنا يقول النووي -رحمه الله-: الحذف بحاء مهملة، وذال معجمة، مفتوحتين[5]، يعني: جعلها حَذَف، لكني رأيتها في بعض المصادر الأصلية في كتب السنن (الحذْف) بالسكون، ويراجع -إن شاء الله تعالى-.
لكن المقصود بها جمع حذفة، وهي بهائم، صغار الضأن، قالوا: موجودة في أرض الحجز واليمن، سوداء، كأنها الشياطين، تتخلل بين الصفوف، يعني: فيما يكون من فجوات بين المصلين، وإذا دخلت بينهم، فهي لا تدخل للفرجة، وإنما تدخل من أجل الوسوسة والإشغال، فيصلي الإنسان ولا يدري ما صلى، ينشغل قلبه، يقرأ الإمام لا يدري ما قرأ، وهكذا، فالنبي ﷺ يقول: أقيموا الصفوف فهذا أمر وحاذوا بين المناكب، وسدوا الخلل هذه كلها أوامر، والأصل أنها محمولة على الوجوب، وهكذا في حديث أنس: رصوا الصفوف، وقاربوا بينها والمقاربة بين الصفوف يعني أن لا يكون مسافة بين الصف والصف، كما سبق، وكذلك مع الإمام، وإنما يكون الصف بينه وبين الصف نحو ثلاثة أذرع، أو نحو ذلك.
قال: فو الذي نفسي بيده، إني لأرى الشيطان يدخل من خلل الصف لاحظ هنا يرى الشيطان، وفي الحديث الآخر: يرى المصلين ﷺ، فهذا كله من معجزاته -عليه الصلاة والسلام-، فالله يريه ذلك.
وذكر حديثًا آخر عن أنس أن رسول الله ﷺ قال: أتموا الصف المقدم، ثم الذي يليه، فما كان من نقص، فليكن في الصف المؤخر[6].
يعني: الإنسان يبدأ بتكميل الصفوف الصف الأول، ثم الصف الثاني، ثم الصف الثالث، وهكذا، فلا يأتي ويصطف مع الناس، ويوجد مكان في الصف الأول، أو يصطف في الصف الثالث، ويوجد مكان في الثاني، وهكذا، ثم الذي يليه.
فما كان من نقص، فليكن في الصف المؤخر ولكن مثل هذا قد يسقط مع المشقة، يعني مثلاً في المسجد النبوي بالذات، في المسجد الحرام نحن نقول: أولئك الذين يأتون ويصلون بعيدًا عند الأبواب، أو في الساحة والمسجد في داخله فضاء كثير، وبينهم وبين الصفوف مفاوز، هؤلاء يخشى أن لا تصح صلاتهم، فهذا خلل بين، ولكن في المسجد الحرام إن أراد أن يتتبع كل صف في طرفه، فسيجد، فهو ينتقل من صف إلى صف، والصفوف كما تعلمون في المسجد الحرام ليست كالمساجد الأخرى، فإن هذا قد تفوته الصلاة، وهو لا يزال يتتبع، والمسألة فيها شيء من النسبية هناك باعتبار أن الصفوف التي تكون في بعض المواضع مثل الأروقة، أو ما دون الممرات، أو نحو ذلك أن هذا يعتبر كأنه صف قد اكتمل، لكن لما كانت هذه الصفوف تتفاوت في طولها، ونحو ذلك، فقد يجد أماكن بطريقة، أو بأخرى، وقد يصلي بعض الناس بين الأعمدة وبين السواري، فتجد كثيرًا من هذه الصفوف تقطعها السواري.
والمقصود: أن من يريد تتبع هذا إلى المنتهى تمامًا قد تفوته الصلاة، وهو على هذه الحال، أما تكبيرة الإحرام فهذا قد لا يتأتى له أصلاً، ولو جاء مبكرًا، فإذا وصل إلى جمهور الصفوف يحاول أن يأتي للصف المقدم، لكن التتبع في هذا مما قد يؤدي إلى فوات صلاة الجماعة، وقد يلحق المصلين أو الناس حرج، والشريعة جاءت برفع الحرج والمشقة، والله تعالى أعلم.
لكن التساهل الواقع هذا أمر لا يقر، كما ذكرتُ.
ثم ذكر حديث عائشة -رضي الله عنها- قالت: قال رسول الله ﷺ: إن الله وملائكته يصلون على ميامن الصفوف[7]، رواه أبو داود، بإسناد على شرط مسلم، وفيه رجل مختلف في توثيقه، فهذا الحديث فيه ضعف في إسناده.
إن الله وملائكته يصلون على ميامن الصفوف ولهذا قال البيهقي وبعض أهل العلم: بأن الصحيح رواية: إن الله وملائكته يصلون على الذين يصلون الصفوف[8]، وليس على ميامن الصفوف، ولا أعلم حديثًا صحيحًا ثابتًا في فضل يمين الصف صراحة، وإنما غاية ما هنالك ما ورد من حديث جابر أو حديث البراء وسيأتي، وليس ذلك بصريح.
ولكن لا شك أن ما جاء في التيامن والتيمن يدل على الأفضلية.
وذكر حديث البراء الذي أشرت إليه قال: "كنا إذا صلينا خلف رسول الله ﷺ أحببنا أن نكون عن يمينه" ما العلة؟ قال: "يقبل علينا بوجهه، فسمعته يقول: رب قني عذابك، يوم تبعث أو تجمع عبادك[9]، رواه مسلم.
قوله: يقبل علينا بوجهه الصحابة أحبوا أن يصلوا عن يمينه؛ لأنه يقبل عليهم بوجهه، لكن هذا لا يدل صراحة على فضل يمين الصف.
والنبي ﷺ كان ينصرف عن يمينه ﷺ، وتارة ينصرف عن يساره.
والحديث الأخير: عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: وسطوا الإمام، وسدوا الخلل[10]، رواه أبو داود، وهذا الحديث لا يصح، نعم توسيط الإمام هو الأصل، ولكن يبقى فيما لو أن الناس تحرى بعض الناس اليمين، فصار اليمين أطول من اليسار، وهذا قد يظهر أكثر في بعض الصلوات، مثل صلاة الفجر للأسف تجد المصلين قلة، ويظهر هذا جليًا فتجد أحيانًا وراء الإمام يصلي اثنان أو ثلاثة، وعن اليمين يصلي مجموعة أكثر، فالصف ممتد إلى جهة اليمين، واليسار قليل، هل يحق للإمام أن يقول للناس: عدلوا الصف، وسطوا، نحن قلنا: الأصل توسيط الإمام، لكن هؤلاء جاؤوا بجهة اليمين، فهل يحق له أن يزيح هؤلاء الناس، ويفرقهم، ويقول: اذهبوا إلى اليسار، بعد ما جاؤوا بناحية اليمين؟ هم ينبغي عليهم أن يراعوا هذا.
وأذكر أن الشيخ عبد العزيز بن باز -رحمه الله- سُئل عن هذه المسألة: عن إمام للناس يوجههم أن يتوجهوا إلى الناحية الأخرى إلى اليسار، فقال: هذا جاهل، باعتبار أنه حرمهم من يمين الصف، يعني: كان ينبغي عليهم أن يراعوا ذلك هم، فيوسطوا الإمام، ولكن دون أن يعمد الإمام إلى نقل بعض المصلين من جهة اليمين إلى اليسار، هكذا قال، والمسألة تحتاج إلى تأمل، والحديث في الأمر بتوسيط الإمام لا يصح.
والله أعلم.
وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.
- أخرجه أبو داود في تفريع أبواب الصفوف، باب تسوية الصفوف برقم (666) وصححه الألباني.
- أخرجه ابن ماجه في كتاب إقامة الصلاة، والسنة فيها، باب صلاة الرجل خلف الصف وحده برقم (1003) وصححه الألباني.
- أخرجه البخاري في كتاب الأذان، باب إذا ركع دون الصف برقم (783).
- أخرجه أبو داود في تفريع أبواب الصفوف، باب تسوية الصفوف برقم (667) وصححه الألباني.
- رياض الصالحين ت الفحل (ص:317).
- أخرجه أبو داود في تفريع أبواب الصفوف، باب تسوية الصفوف برقم (671) وصححه الألباني.
- أخرجه أبو داود في تفريع أبواب الصفوف، باب من يستحب أن يلي الإمام في الصف وكراهية التأخر برقم (676) وقال الألباني: "حسن بلفظ على الذين يصلون الصفوف".
- أخرجه البيهقي في السنن الكبرى (3/103).
- أخرجه مسلم في كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب استحباب يمين الإمام برقم (709).
- أخرجه أبو داود في تفريع أبواب الصفوف، باب مقام الإمام من الصف (681) وضعفه الألباني.