الثلاثاء 17 / جمادى الأولى / 1446 - 19 / نوفمبر 2024
حديث «إن الله لا يعذب بدمع العين..» إلى «إن العين تدمع والقلب يحزن..»
تاريخ النشر: ١٥ / رجب / ١٤٣١
التحميل: 919
مرات الإستماع: 1401

إن الله لا يعذب بدمع العين

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

ففي باب جواز البكاء على الميت بغير ندب ولا نياحة مضى الكلام على ما جاء من قول النبي ﷺ: إن الميت ليعذب ببكاء أهله عليه[1]، ومحمل ذلك، وأن المراد بالبكاء: ما يكون من قبيل النياحة، والله تعالى أعلم، جمعًا بين الأحاديث.

وعرفنا أن النياحة تكون بالصوت، بالندب: واجبلاه، ونحو ذلك، وبرفع الصوت بالبكاء، كما أنها تكون أيضاً بالفعل كخمش الوجه، ولطم الخد، ونتف الشعر، وشق الجيب، وما أشبه ذلك.

وأما ما يدل على جواز البكاء، وأن ذلك لا يدخل فيما ورد فما جاء من:

حديث عبد الله بن عمر -رضى الله عنهما-: أن رسول الله ﷺ عاد سعد بن عبادة، ومعه عبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص، وعبد الله بن مسعود ، فبكى رسول الله ﷺ فلما رأى القوم بكاء رسول الله ﷺ بكوا، فقال: ألا تسمعون؟ إن الله لا يعذب بدمع العين، ولا بحزن القلب، ولكن يعذب بهذا أو يرحم وأشار إلى لسانه. متفق عليه.

فبكى رسول الله ﷺ، يعني: رقة له في القصة المعروفة، لما سار إليه، ومر بجمع فيهم المسلمون والمشركون، ومعهم عبد الله بن رواحة ، وفي القوم عبد الله بن أبيّ قبل أن يُظهر إسلامه، وكان هذا في أول الهجرة، وكان النبي ﷺ على حمار، فدعاهم إلى الإسلام، في القصة المعروفة، فقال عبد الله بن أبي: يا هذا، لا تغبروا علينا، ووضع ثوبه على أنفه، وقال: لا تؤذنا بنتن حمارك، من جاءك منا فحدثه، ومن لم يأتك فلا تغشانا في مجالسنا..[2]، إلى آخر الكلام المعروف.

الشاهد: أن النبي ﷺ أتى إلى سعد بن عبادة ، وهو سيد الخزرج، فلما رأى ما به من المرض، والشدة، بكى رقة ورحمة، فلما رأى القوم بكاء رسول الله ﷺ بكوا، وهذا الذي يسميه الحافظ ابن القيم -رحمه الله: بكاء الموافقة، بكى النبي ﷺ فبكوا، وله نظائر من فعل السلف من الصحابة فمن بعدهم، فقال: ألا تسمعون؟ وهذا هو الشاهد: إن الله لا يعذب بدمع العين، ولا بحزن القلب..، هذا بكاء الآن.

لا يعذب، أي: لا يعذب الإنسان، ويدخل في عمومه أيضًا: أن الله لا يعذب الميت، ولو علم أنه يحصل منهم ذلك، قال: ولكن يعذب بهذا، أو يرحم، وأشار إلى لسانه، متفق عليه.

يعذب بهذا، يعني: ما الذي يصدر منه؟ فإن صدر منه ما لا يليق من النياحة، ونحو هذا فإنه يعذب على ذلك الإنسان، ولربما يعذب الميت على أحد المعاني التي ذكرت في تفسير الحديث السابق: إن الميت ليعذب ببكاء أهله عليه[3]، لربما عذب الميت إذا علم أن ذلك من عادتهم وما نهاهم، أو أنه أوصى بذلك.

أو يرحم، كما لو صدر منه كلام يدل على الرضا بالقضاء.

هذه رحمة جعلها الله تعالى
ثم ذكر حديث أسامة بن زيد -رضى الله عنهما-: أن رسول الله ﷺ أن رسول الله ﷺ رفع إليه ابن ابنته وهو في الموت، ففاضت عينا رسول الله ﷺ فقال له سعد: ما هذا يا رسول الله؟! قال: هذه رحمة جعلها الله تعالى في قلوب عباده، وإنما يرحم الله من عباده الرحماء، متفق عليه.

رُفع إليه ابن ابنته، وهو في الموت، يعني: في النزع، وقلنا: إن هذه البنت هي زينب -رضى الله عنها-، وإن هذا الابن يقال له: علي، ففاضت عينا رسول الله ﷺ، يعني: المقصود فاضت الدموع من عينيه، يقال: فاضت عينه، والذي فاض هو الدموع، فقال له سعد: ما هذا يا رسول الله؟ يعني: كأنه كان يفهم أن البكاء خلاف الصبر، قال: هذه رحمة جعلها الله تعالى في قلوب عباده، وإنما يرحم الله من عباده الرحماء[4]متفق عليه.

وكما سبق: أن هذه الشريعة ما جاءت بالتكاليف الشاقة، وما حملت الناس على أمر يخرج عن طاقتهم، ومقدورهم، والإنسان يغلبه الحزن، وتفيض عينه من غير اختياره في حالات الحزن، فلا يؤاخذ على هذا.

إن العين تدمع والقلب يحزن
ثم ذكر حديث أنس : أن رسول الله ﷺ دخل على ابنه إبراهيم وهو يجود بنفسه، فجعلت عينا رسول الله ﷺ تذرفان. فقال له عبد الرحمان بن عوف: وأنت يا رسول الله؟! فقال: يا ابن عوف إنها رحمة ثم أتبعها بأخرى، فقال: إن العين تدمع والقلب يحزن، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا، وإنا لفراقك يا إبراهيم لمحزونون. رواه البخاري، وروى مسلم بعضه.

وهو يجود بنفسه، ومعنى: يجود بنفسه أي أنه يلفظها، يقال: جاد بنفسه، وأصل الجود هو البذل، يعني: يبذل نفسه، فجعلت عينا رسول الله ﷺ تذرفان، يعني من الدموع، فقال له عبد الرحمن بن عوف: وأنت يا رسول الله!، يعني: هل يصدر منك هذا؟ فقال: يا ابن عوف، إنها رحمة، ثم أتبعها بأخرى، ومعنى أتبعها بأخرى: يحتمل أن يكون المراد ذرفت عينه ثانية، ويحتمل أن يكون المراد -وهو الأقرب- أتبعها بأخرى: أي بكلمة أخرى، وهي: قوله ﷺ: إن العين تدمع، والقلب يحزن، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا، وهذا هو المطلوب، وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزنون[1]، فحزن القلب لا يؤاخذ عليه الإنسان، ودمع العين كذلك، رواه البخاري، وروى مسلم بعضه، والأحاديث في الباب كثيرة، في الصحيح مشهورة، والله تعالى أعلم، فنسأل الله أن يرزقنا وإياكم الصبر، والثبات، وأن يعيننا وإياكم على ذكره وشكره وحسن عبادته، وصلى الله على نبينا محمد، وآله، وصحبه.

  1. أخرجه البخاري، كتاب الجنائز، باب قول النبي ﷺ: إنا بك لمحزونون، رقم: (1303)، ومسلم، كتاب الفضائل، باب رحمته ﷺ الصبيان والعيال وتواضعه وفضل ذلك، رقم: (2315).

مواد ذات صلة