الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
ففي باب استحباب تكثير المصلين على الجنازة، وجعل صفوفهم ثلاثة فأكثر، ذكر:
يعني: يطلبون له المغفرة، وأن يتجاوز الله عنه، إلا شُفعوا فيه، فهذه من المبشرات، وهو أمر ميسور ولله الحمد في مثل هذه الأيام، فإن المساجد الجوامع التي يصلى فيها على الجنائز العدد فيها عادة يزيد على مثل هذا العدد، وإن لم يعرفوا الميت، وإن لم يشيعوه، ويأتوا معه.
"مسلم" هنا نكرة في سياق الشرط، وهي: للعموم، يعني: أيّ رجل مسلم، هناك مائة، وهنا أربعون، هل بينهما معارضة؟ الجواب: لا؛ لأن العدد لا مفهوم له -مفهوم مخالفة، مفهوم العدد غير معتبر، فهناك ذكر مائة، ولا يعني: الحصر بهم، وهنا ذكر أقل من هذا، وهم الأربعون، ويمكن أن يكون أطلع الله نبيه ﷺ على مزيد من التفضل على هذه الأمة، فبلغ إلى أربعين، بل أكثر من ذلك، يعني: في الفضل، وليس في العدد، وهو ما يدل عليه حديث مرثد بن عبد الله اليَزني، وهو: من كبار التابعين.
يعني: أوجب الجنة، رواه أبو دواد، والترمذي، وقال: حديث حسن، بمعنى: هذه الجنازة ما حضر إلا ستة، كيف نصنع بهم؟ لا نقول هنا: يطلب تكميل الصف في الجنازة، لا، ضع اثنين، ثم اثنين، ثم اثنين، ثلاثة صفوف، وبهذا يتحقق هذا الوصف: من صلى عليه ثلاثة صفوف، فقد أَوْجب، فهذا كله من فضل الله -تبارك وتعالى- على عباده، ولله الحمد الآن يصلي ثلاثة صفوف وأكثر ممتلئة، بخلاف ما كان الناس في السابق، حينما كان الناس قلة، وهم متفرقون في أرضهم، وزروعهم، وحروثهم، وأعمالهم، وقراهم، وما إلى ذلك، كان الناس لربما لا يجتمعون إلا في الجمعة من القرى والنواحي، يجتمعون في الجمعة، وكانت أحوالهم في غاية الصعوبة، نحن نعرف أحوال الآباء والأجداد، فالرجل أو المرأة لربما مات أبوه أو أمه ولم يعلم إلا بعد شهر أو شهرين، هذا موجود، لأنه ما كان بينهم إلا المكاتبات، ومتى يجدون من يكتب؟ ومتى يجدون من يذهب حتى يوصل هذا الكتاب أو الخطاب؟، ولا يكاد يجتمع الناس في مجمع كبير إلا في الجمعة، حيث يجتمعون من النواحي المختلفة، ومن زروعهم، ونحو ذلك، بل لربما مات الولد وأبوه في ناحية البلد، خرج من زرعه، من أرضه، من مزرعته، إلى السوق، أو نحو ذلك، يرجع في المغرب، أو نحو هذا، ويأتي ويجد الولد قد مات، ودفن، وصُلي عليه، صَلى عليه من حضر، ثلاثة أو أربعة، هذا كان يحصل، كانت أمور الناس في غاية البساطة، والمرأة لربما سقطت في القليب وماتت بعد العصر، وزوجها في ناحية البلد، لكن يذهب على قدميه، فمتى يأتي؟ فتُخرج، وتغسل، ويصلى عليها، وتدفن، ويأتي زوجها بعد المغرب، وإذا بزوجته التي كانت لا بأس بها قد ماتت، وصُلي عليها، ودفنت، ما ينتظرونه.
أما الناس اليوم فينتظرون إلى الغد، ويجتمع الناس، ويأتي المسافرون، ويكثر الحضور للجنازة.
وقديمًا لربما كانت تقع بعض الأمور أحيانًا الطريفة من غير قصد، يعني: نحن نعرف في بعض الحالات حينما يجتمع أهل القرى في يوم الجمعة، فهذا رجل من هؤلاء من أهل القرية، الناس يجتمعون، وهو في حال ينتظر فيها خروج روح أمه؛ لأنها قد بلغ بها المرض غايته، ينتظر فقط خروج روحها، توشك أن تموت لأنها في غاية المرض، فكان يتوقع أنها تموت قبل الجمعة، ويغتنم هذا الجمع، فيصلون عليها، فما ماتت، فقال للجماعة بعد الصلاة وكانت أمور الناس بسيطة: يا جماعة، انتظروا، الوالدة في حالة، لعلكم تصلون عليها، جلسوا ينتظرون إلى العصر، ما ماتت، قال: انتظروا، ولكن طبعًا لا يستطيعون التأخر، فإذا جاء الظلام يصعب عليهم الذهاب إلى أرضهم، ونواحيهم، فهذا جاء -أعزكم الله- على حمار، وهذا جاء على قدميه، ما هو مثل الآن بسيارات، وأمور الناس تحسنت، فالذي يُقطع الآن بالسيارة بعشر دقائق يحتاج له ربما نصف يوم حتى يصل، فالشاهد: قال لهم: انتظروا، جلسوا إلى قريب من المغرب، فالناس تلملموا، فذهبوا، وانصرفوا، والمرأة عوفيت فيما بعد، وبرئت، وكانت تقول له: كنتَ تقول للناس: انتظروا؛ حتى تستريح!، وهو لم يكن يقصد هذا، كان يقصد الإحسان، وأن يكثر المصلون عليها، بدلًا من أن يصلي عليها خمسة أو ستة من الناس، فالله المستعان، فنسأل الله أن يغفر لنا ولكم، ولوالدينا ولإخواننا المسلمين، اللهم ارحم موتانا، واشفِ مرضانا، وعافِ مبتلانا، واجعل آخرتنا خيرًا من دنيانا، وصلى الله على نبينا محمد، وآله، وصحبه.
- أخرجه مسلم، كتاب الجنائز، باب من صلى عليه مائة شفعوا فيه، رقم: (947).
- أخرجه مسلم، كتاب الجنائز، باب من صلى عليه أربعون شفعوا فيه، رقم: (948).
- أخرجه أبو داود، كتاب الجنائز، باب في الصفوف على الجنازة، رقم: (3166)، والترمذي، أبواب الجنائز عن رسول الله ﷺ، باب ما جاء في الصلاة على الجنازة والشفاعة للميت، رقم: (1028)، وقال: حديث مالك بن هبيرة حديث حسن، وابن ماجه، كتاب الجنائز، باب ما جاء فيمن صلى عليه جماعة من المسلمين، رقم: (1490)، وضعفه الألباني في: ضعيف الجامع الصغير وزيادته: (ص: 754)، رقم: (5220).