الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
ففي باب فضل السلام والأمر بإفشائه أورد المصنف -رحمه الله-:
قوله ﷺ: لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، فالجنة لا يدخلها إلا نفس مؤمنة، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، فدل ذلك على أن التحابّ بين أهل الإيمان من الصفات الواجبة التي يجب تحققها بين المؤمنين.
لا تؤمنوا حتى تحابوا، فكأن ذلك من قبيل شروط الوجوب في الإيمان، يعني: الكمال الواجب، وقد يقول: قائل هنا: إن الحب، والبغض، والرضا، ونحو ذلك، كالحياء، ونحوه، هذه أمور لا يملكها الإنسان، وإنما تقع في قلبه من غير اختيار، ولا إرادة، والله لا يكلف نفسًا إلا وسعها، والمعروف في هذه الشريعة أن الله لا يكلف بما لا يطاق، فكيف كُلفنا بهذا المطلوب وهو التحاب بين المؤمنين، والإنسان قد يريد محبة أحد، ولا يستطيع، وقد يحب، ويريد دفع هذا الحب ولا يستطيع؟.
فبين النبي ﷺ الطريق إلى ذلك؛ لأنه كما سبق في بعض المناسبات أن خطاب الشارع إذا توجه إلى المكلفين في أمر لا يدخل تحت طوقهم -لا يدخل تحت قدرتهم، فإنه يتوجه إلى سببه، أو إلى أثره.
فهنا وجههم النبي ﷺ إلى السبب: أوَلا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم، يعني: أشيعوه، وهذا مشاهد، فإن الذي يسلم على الناس، يسلم على من يعرف، ومن لا يعرف، تميل إليه القلوب، وتحبه، والذي لا يبالي بهم، ولا يكترث، ولا يسلم، ولا يلقي السلام على أحد، لا شك أن الناس ينقبضون منه.
أبو يوسف عبد الله بن سلام من أحبار اليهود، معروف، وهو من نسل يوسف الصديق بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم -عليهم الصلاة والسلام- وتعرفون خبره، أسلم حينما قدم النبي ﷺ المدينة.
يقول: سمعت رسول الله ﷺ يقول: يا أيها الناس، أفشوا السلام، أي: أشيعوه وانشروه، وأطعموا الطعام، سواء كان ذلك في الضيافة -القِرى، أو كان ذلك ببذله للمحتاجين، وما إلى ذلك.
وصلوا الأرحام، كل من تربطك به وشيجة الرحم.
وصلوا والناس نيام، يدخل في هذا قيام الليل، ويدخل فيه ما ينام عنه الناس من الصلوات.
تدخلوا الجنة بسلام، يعني: من غير أن تجدوا كدرًا في ذلك، وهذا يدل -والله تعالى أعلم- على أنهم يدخلونها من غير تعذيب بالنار، وإلا فإن أهل الإيمان يدخلون الجنة، وإن عُذب من عذب منهم في النار.
والحديث الأخير:
هذا الطفيل من التابعين، وأبيّ بن كعب من الصحابة أنه كان يأتي عبد الله بن عمر - وعن أبيه، فيغدو معه إلى السوق.
الغدوّ هو: الذهاب في أول النهار، ما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس، هذا الغدو في الأصل، ثم صار يطلق ذلك على الذهاب مطلقًا، من ذلك قول النبي ﷺ: واغدُ يا أنيس إلى امرأة هذا، فإن اعترفت فارجمها[3]. يعني: اذهب إليها، انطلق إليها.
قال هنا: "فيغدو معه إلى السوق"، والسوق معروف، قيل له ذلك إما؛ لأن البضائع تساق إليه، أو لأن الناس يقفون فيه على الساق، أو غير ذلك من المعاني.
قال: "فإذا غدونا إلى السوق، لم يمر عبد الله على سَقَّاطٍ، ولا صاحب بيعة، ولا مسكين".
السَقَّاط هو الذي يبيع حقير المتاع، الشيء الذي لا قيمة له، "ولا صاحب بيعة"، بيعة واحدة من البيع، كأنه يريد صاحب بيعة، يعني: جزلة، "ولا مسكين، ولا أحد، إلا سلم عليه".
قال الطفيل: "فجئت عبد الله بن عمر يوماً فاستتبعني إلى السوق"، هذا يدل على أنه كان من عادته إذا جاءه يذهب معه إلى السوق، قال: اتبعني، مشينا إلى السوق، "فقلت له: وما تصنع بالسوق وأنت لا تقف على البيع، ولا تسأل عن السلع، ولا تسوم بها، ولا تجلس في مجالس السوق؟، وأقول: اجلس بنا ههنا نتحدث". نجلس أنا وأنت نتحدث، ونستفيد من الوقت.
"فقال: يا أبا بطن"، -هذا الطفيل بن أبيّ بن كعب كان له بطن كبير، فقال له: يا أبا بطن، وهذا يدل على جواز ذلك، ما لم يتأذَّ به المقول له، وبعض الصحابة يقال له هذا، أسامة بن زيد يقال له: أبو البُطين، ومن رواة الحديث من يلقب بذلك، مثل: مسلم البَطين، وإذا نظرتم في الألقاب في كتب رجال الحديث مثلًا، الرواة يفردون بابًا في الألقاب، فتجدون ألقابًا كثيرة في الصحابة وفيمن بعدهم، وهذا محمول على أنه إن لم يكن يتأذى بذلك.
فقال: يا أبا بطن، -وكان الطفيل ذا بطن- إنما نغدو من أجل السلام، وهذا يدل على أن ما يذكره بعض الناس -من الناس في هذا العصر لما حصل لهم الترهل، ووُجد فيهم مثل هذا الترهل في الأجسام- أن هذا ليس على إطلاقه، ومن نظر وقرأ في أوصاف الناس في ذلك العهد يجد فيهم مثل هذا، يجد فيهم البدين والنحيل، ومن له بطن، ومن له صدر بارز، إلى غير ذلك، ولاسيما إذا بدأ الإنسان يتقدم في العمر.
والنبي ﷺ معروف أنه اعتذر لأصحابه بأنه قد بدَّن، يعني: حمل اللحم، ونهاهم أن يسبقوه في الركوع أو السجود[4].
وعائشة لما سابقت النبي ﷺ سبقته، قالت: فلما حملتُ اللحم[5]، يعني: بدّنت، وهذا طبيعي إذا تقدم عمر الإنسان.
وكذلك أيضاً لما ذكرتْ حادثة الإفك تقول: وكنت جارية صغيرة، حملوا الهودج، ولم يشعروا أنها موجودة، أو غير موجودة، وذكرت صفة النساء في ذلك الوقت من النحافة، وقلة اللحم إلى آخره[6].
يقول ابن عمر -ا: إنما نغدو من أجل السلام، فنسلم على من لقيناه[7]رواه مالك في الموطأ بإسناد صحيح.
يذهب إلى السوق من أجل السلام، وهذا فيه هذا المعنى، جواز الذهاب إلى السوق من أجل السلام لا لحاجة، مع أن السوق ليس ذلك المحل الذي يحبذ الإنسان المجيء إليه، فهو المكان الذي يغرز الشيطان فيه رايته، والنبي ﷺ أوصى بعض أصحابه أن لا يكون أول داخل إلى السوق، ولا آخر خارج منها، هذا في ذلك الزمان، أما في زماننا هذا فكثرت المنكرات في الأسواق، وتبرج النساء، فلا يقول الإنسان: أذهب إلى السوق من أجل أن أسلم على الناس.
نقول: تستطيع أن تذهب تسلم على الناس في مكان آخر، اذهب للمنطقة الصناعية، والورش وستجد بشراً كثيراً تسلم عليهم، وأنت في غنية عن ذهابك إلى السوق.
والله تعالى أعلم، وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.
- أخرجه مسلم، كتاب الإيمان، باب بيان أنه لا يدخل الجنة إلا المؤمنون، وأن محبة المؤمنين من الإيمان، وأن إفشاء السلام سبب لحصولها، (1/ 74)، رقم: (54).
- أخرجه الترمذي، أبواب صفة القيامة والرقائق والورع عن رسول الله ﷺ (4/ 652)، رقم: (2485).
- أخرجه البخاري، كتاب الوكالة، باب الوكالة في الحدود (3/ 102)، رقم: (2314)، ومسلم، كتاب الحدود، باب من اعترف على نفسه بالزنى (3/ 1324)، رقم: (1697).
- أخرجه أبو داود، كتاب الصلاة، باب ما يؤمر به المأموم من اتباع الإمام (1/ 168)، رقم: (619)، وابن ماجه، كتاب إقامة الصلاة، والسنة فيها، باب النهي أن يسبق الإمام بالركوع والسجود (1/309).
- أخرجه أبو داود، كتاب الجهاد، باب في السبق على الرِّجل (3/ 29)، رقم: (2578).
- أخرجه البخاري، كتاب الشهادات، باب تعديل النساء بعضهن بعضا (3/ 173)، رقم: (2661)، ومسلم، كتاب التوبة، باب في حديث الإفك وقبول توبة القاذف (4/ 2129)، رقم: (2770).
- أخرجه مالك في الموطأ، كتاب السلامة، باب جامع السلام (2/ 961)، رقم: (6).