- قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا...}
- قوله تعالى: {وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا...}
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فهذا باب الاستئذان وآدابه، والاستئذان: هو طلب الإذن.
وآداب الاستئذان متنوعة، منها ما يتصل بالنظر، ومنها ما يتصل بالقول -ما يقوله المستأذن، وما يبدأ به- ومنها ما يتصل بما يجيب به إذا سئل من بالباب؟ من أنت؟ ومنها ما يتصل بمكان وقوفه مثلاً، إلى غير ذلك.
قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا [النور: 27].
بمعنى: أن الإنسان إذا دخل بيته كما يدل عليه مفهوم المخالفة في الآية أنه لا يجب عليه الاستئذان، ولكن هل معنى ذلك أنه لا يستأذن؟، لا يستأذن إذا دخل بيته إن لم يكن في البيت أحد سواه، إنسان يسكن في البيت منفردًا فلا يحتاج إلى استئذان، أما إذا وُجد فيه أحد غيره فإن كانوا من غير المحارم فإن عليه أن يشعرهم، وأن يعرفهم بمجيئه ودخوله، وإن كانوا من المحارم كالأم والأخت -حتى الزوجة- فإن يحسن أن يُشعرهم بمجيئه ودخوله، ولهذا جاء عن جماعة من السلف، كابن مسعود أنه إذا أراد أن يدخل تنحنح، ونحو ذلك.
وسئل بعضهم، كعطاء وغيره عن الدخول على الأخت، وذات المحرم، فكانوا يجيبون: أتحب أن تراها عريانة؟ بمعنى: أنها قد تكون في هيئة لا تحب أن تراها فيها، فإذا أشعرتهم بالمجيء وبالدخول، تهيئوا لذلك.
وهكذا ما يتصل بالزوجة فإنها وإن لم يكن ثمّة عورة تتصل بها من ناحية الزوج إلا أنها تحتاج أن تتهيأ لدخوله، فقد تكون في حال تكره أن يراها عليها، وهو قد يكره هذا أيضًا، قد يراها في حال تنقبض منها نفسه، تنصرف عنها، فيحسن أن يُشعرها.
ويفرق بين دخول المكان الخاص بذات المحرم، وبين ما إذا كان الدخول إلى الدار، بمعنى: هذا إنسان يريد أن يدخل بيته، فهذه الغرفة تخص أخته، أو أمه، أو نحو ذلك، إذا دخل البيت يشعرهم بدخوله، يتنحنح، أو نحو ذلك، أو يضغط الجرس بطريقة يعرفونها أن هذا فلان، فيتهيئون للقائه، ولا ينتظر حتى يؤذن له.
لكن إذا أراد أن يدخل المكان المختص بهؤلاء، مكان خاص بهذه الأخت، خاص بأمه، فماذا يصنع؟ يحتاج أن يستأذن يطرق الباب، بل يحسن أن يكون ذلك حتى على الأولاد، أن يعودهم، وأن يربيهم على الأدب، إذا جاء يدخل غرفة الواحد منهم أشعره بذلك، طرق الباب.
والله يقول: لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ [النور: 27]، فمفهوم المخالفة: أنه إذا دخل بيته لا يجب عليه الاستئذان.
حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا، وسبق الكلام على هذا، وبينت أصل الاستئناس، وأن أكثرهم فسره بالاستئذان، وأن ذلك ليس من تفسيره المطابق، وإنما هو من قبيل التفسير -والله تعالى أعلم- بالملزوم عن اللازم، بمعنى: أنه إن أذنوا له فإنه يأنس بإذنهم، فعبر عن الاستئذان بالاستئناس؛ لأنه سبب للاستئناس، أن يأنس بإذنهم، وإلا فالأصل أن الاستئذان هو طلب الإذن، والاستئناس هو طلب الأنس، أو الاستعلام؛ لأن كلمة الاستئناس لها معنيان:
الأول: استأنس، بمعنى: استعلم هل يأذنون أو لا يأذنون؟ آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا [القصص: 29]، يعني: شعر، وعلم بوجود نار.
والمعنى الثاني: الأنس الذي يقابل الوحشة.
فالمستأذن مستعلم هل يأذنون له أو لا؟
والأمر الثاني: هو يجد شيئًا من الوحشة، لا يدري ما الذي سيواجه، وهو يطرق الباب، ويطلب الإذن بماذا سيُرد عليه، ومن سيخرج له، ماذا سيقال له؟، فإن أذنوا له فإنه يأنس بذلك.
قال: حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا [النور: 27]، قدم هنا الاستئناس، ولهذا قال بعض أهل العلم: إن الاستئذان قبل السلام، تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا والذي دلت عليه السنة أن السلام قبلُ، كما سيأتي في الأحاديث، السلام عليكم، أأدخل؟ هذه هي السنة، ويجاب عن هذا بأن الواو لا تقتضي الترتيب، والسنة تفسر القرآن، وعلمنا النبي ﷺ طريقة الاستئذان، فالسلام أولاً.
وبعض أهل العلم قال بقول ثالث وهو أنه إن وقعت عينه على إنسان فإنه يسلم أولاً، ثم يستأذن، يقول: أأدخل؟ وإن لم تقع عينه على أحد قدم الاستئذان، قال: أأدخل؟ السلام عليكم، والأقرب ما ذكرتُ، والله تعالى أعلم.
وقال تعالى: وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ [النور: 59]، الطفل هو الذي يكون قبل البلوغ، قبل البلوغ هو طفل، وبعد البلوغ يكون رجلاً، وإن لم يظهر عليه شيء من أمارات البلوغ فإنه يُحكم له بذلك إذا أكمل الخامسة عشرة من عمره، كما سبق في أحكام الطفل.
وجاء ذلك عن عمر بن عبد العزيز -رحمه الله- واستُنبط من صنيع النبي ﷺ حينما عُرض عليه بعض صغار الصحابة، كابن عمر فلم يأذن له حينما كان في الرابعة عشرة، ثم أذن له بعدها لما أتم الخامسة عشرة.
قال: فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أي: الأحرار والبالغون، فإنهم يستأذنون في كل وقت، بمعنى أن هذا الصغير يستأذن إذا أراد أن يدخل الغرف الخاصة، غرفة أبيه، أو أمه، أو عمته، أو خالته، والسبب في ذلك وفي آداب الاستئذان عمومًا كما قال الله هنا بالنسبة للصغار: مِنْ قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ [النور: 58].
فهذه أوقاتٌ الناس يخلدون فيها إلى الراحة، ويتخففون فيها من الثياب، فإذا أراد أحد أن يدخل على هؤلاء فإنه يستأذن، ولهذا إذا جاء الولد يدخل غرفة أخته، أو أمه، أو نحو ذلك فإن عليه أن يستأذن، فكيف إذا كانت غرفة لآخرين؟، يعني: مثلاً إنسان جاء إلى أناس ليس له أن يدخل مباشرة، وإذا كان يسكن مع آخر في سكن الجامعة مثلاً، بعض الناس يكون ثقيلاً جدًّا، يُفاجَأ صاحبه به في كل حين، وفي كل لحظة فهو مستوفز دائمًا، يدير مقبض الباب، ثم يدخل فجأة، الناس يتأذون من هذا، فينبغي أن يستأذن.
وما ذكره الله في البيوت غير المسكونة التي رفع الحرج عن دخولها المقصود بها الأماكن العامة، الأسواق، فهي مأهولة وليست مسكونة، وفرق بين المأهول والمسكون، بهو الفندق، لكن ما تدخل غرف الناس وتقول: هذه مأهولة، تدخل من باب المستشفى، لكن إذا جئت تدخل غرفة المريض تستأذن، وهكذا تدخل للمدرسة، الجامعة، الكلية كل ذلك بدون استئذان، لكن إذا جئت تدخل في مكان خاص بأحد من الناس تستأذن، تدخل على الطبيب تستأذن.
وذلك أن الاستئذان هو أدب رفيع، أدّب الله به عباده، فالناس حينما يكونون في بيوتهم مثلاً حينما يتوقعون هجوم الداخل عليهم في كل لحظة، فإن الواحد منهم يبقى في حال من القلق والترقب، في جلسته، في لباسه، في تصرفاته، ومزاولاته، لكن الناس حينما يكونون في خارج بيوتهم يكونون في حال من التماسك في حركاتهم، وفي تصرفاتهم، وفي لباسهم، وفي طريقتهم في الجلوس، ونحو ذلك، وهذا يسبب لهم شيئًا من الضغط النفسي؛ لأنه لا يترك النفس على سجيتها، يحتاج أن يراعي الآخرين، بطريقة جلوسه وحركاته وسكناته ولباسه.
لكن إذا جلس في بيته وحده وضع الثياب واسترخى في جلوسه، ويحصل له شيء من التوسع في تصرفاته، فالنفس تكون في حال من الانسياب والراحة، أما إذا لم يتأدب الناس بهذا الأدب فيبقى الإنسان حتى وهو في بيته يترقب الداخل في كل لحظة، فلا يطمئن الناس، ولا يستريحون وهم في بيوتهم.
وهكذا إذا كان الإنسان في مكتبه مثلا، أو نحو ذلك، فبعض الناس يدخل ويجلس، طيب استأذن، هل تسمح لي بالدخول؟ هل تأذن لي بالجلوس؟ المِيانة الزائدة -كما يقال- أمر غير محمود، وهذا أحد الأسباب التي تجعل الإنسان ثقيلاً، يستثقله الناس، ويتبرمون به، ولا يفرحون بمجيئه ومجالسته.
وقد ذكرت لكم جملة من أسباب هذا الداء والبلاء الذي هو حمّى الروح -الثقلاء-، كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-، فهذا أحد الأسباب، أن الإنسان يأتي ويفرض نفسه، لا يستأذن، حتى إذا جاء وجلس أمامك، وكيف الحال؟، الحمد لله، وعساك طيب، الحمد لله، وكيف حالك؟ الحمد لله، وعساك طيب، يردد ذلك ربما حوالي ثماني عشرة مرة، أوقات الناس ليست بهذه المثابة.
والله المستعان، فالإنسان ينبغي أن يستأذن، وذكر هنا عددًا من الأحاديث رجوت أن آتي عليها، لكن لا أطيل عليكم.
والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وآله وصحبه.