الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
ففي "باب استحباب المصافحة عند اللقاء، وبشاشة الوجه، وتقبيل يد الرجل الصالح، وتقبيل ولده شفقة، ومعانقة القادم من سفر، وكراهية الانحناء"، أورد المصنف -رحمه الله- حديث عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- قصة قال فيها: "فدنونا من النبي ﷺ فقبلنا يده"[1]، رواه أبو داود.
هذه القصة التي أشار إليها وهو أنهم كانوا في سرية، وأن الناس حاصوا حيصة، وأن ابن عمر -رضي الله عنهما- كان ممن حاص يعني أنهم فروا عند لقاء العدو، وأنهم لما برزوا يعني خرجوا من ذلك المكان، أو تلك الناحية جرى بينهم حديث وهو أنهم كيف يرجعون إلى رسول الله ﷺ وقد فروا عند الزحف، ثم بعد ذلك ائتمروا أن يأتوا إلى المدينة خفية ثم ينسلوا منها خلسة دون أن يشعر بهم أحد؛ فلما جاءوا إلى المدينة قال بعضهم لبعض: لو أتينا النبي ﷺ وأخبرناه فإن كان لنا توبة بقينا فيها، وإن لم يكن لنا توبة خرجنا منها، فأتوه فصلوا معه الصبح صلوا مع النبي ﷺ الفجر، ثم بعد ذلك لما رآهم النبي ﷺ سلموا عليه وقالوا: نحن الفرارون، فقال: بل أنتم الكرارون، أو قال: العكارون[2].
يقول: "فدنونا من النبي ﷺ فقبلنا يده"، والشاهد فيه الذي اقتصر فيه المصنف -رحمه الله- هنا تقبيل اليد، والحديث لا يصح، إسناده ضعيف، ولكن تقبيل اليد ثابت من غير هذا الحديث، فلا بأس بتقبيل يد الوالد، أو يد العالم، وما إلى ذلك كالإمام العادل، لكن من غير انحناء، ووفد عبد القيس لما دخلوا على النبي ﷺ جعلوا يقبلون يديه ورجليه -عليه الصلاة والسلام-، لكن لم يكن ذلك عادة لهم، لم يكن ذلك هو العادة المستمرة المطردة عند أصحاب النبي ﷺ أنهم إذا لقيه الواحد منهم قبل يديه، أو قبل رجله -عليه الصلاة والسلام-.
والمصافحة هي المشروعة فإن حصل تقبيل للرأس أو لليد فلا بأس وكون الإنسان يقبل يد أبيه أو أمه فهذا لا إشكال فيه، وكذلك أيضًا لو حصل تقبيل للقدم لا ينكر، لكن لا ينبغي أن يكون بهيئة كأنه ساجد، يعني يكون هذا قائم فيأتي هذا وينزل ويقبل رجله لكن لو كان جالسًا بين يدي أبيه أو أمه فلاطفه فأخذ بقدمه وقبلها هكذا فهذا لا إشكال فيه، لا يقال: إنه منكر مثلاً، لكن لا يكون بهيئة السجود، ولكن هل هذا يقال: إنه من مقتضيات البر، وأن من لم يفعل ذلك فهو مقصر في البر الواجب، الجواب: لا، ليس كذلك.
ثم ذكر حديث عائشة -رضي الله عنها- قالت: قدم زيد بن حارثة المدينة وهو مولى النبي ﷺ أعتقه، كان يقال له: زيد بن محمد، وهو حب رسول الله ﷺ، تقول: "ورسول الله ﷺ في بيتي فأتاه فقرع الباب فقام إليه النبي ﷺ يجر ثوبه"، يعني كأنه خرج إليه مستعجلاً قبل أن يتهيأ، "فاعتنقه وقبله"[3]، رواه الترمذي، وقال: حديث حسن.
اعتنقه وقبله: الحديث لا يصح عن النبي ﷺ إسناده ضعيف، لكن المعانقة ثابتة من فعل أصحاب النبي ﷺ وإن كان الغالب في مجاري العادات وما كانوا عليه من العمل في ذلك الحين هو أنهم كانوا يصافح بعضهم بعضا، لكن إذا قدم الواحد من سفر عانقه لا بأس بهذا، وثبت من فعل أصحاب النبي ﷺ إذا قدموا من سفر تعانقوا وأما في غير السفر فالمصافحة لكن هل المصافحة تكون حينما يلقاه أو حينما يدخل المجلس فيمر على الجميع ويصافح كل واحد منهم؟
لا، حينما يلقاه يسلم عليه ويصافحه فإذا دخل المجلس سلم تسليما عامًا ثم يجلس حيث ينتهي به المجلس، لا أن يصافح كل واحد منهم.
ثم ذكر حديث أبي ذر قال: قال رسول الله ﷺ: لا تحقرن من المعروف شيئا ولو أن تلقى أخاك بوجه طلق[4]، رواه مسلم.
لا تحقرن من المعروف شيئًا، يعني ولو قليلاً ولو يسيرًا، ولو كان ذلك لا يكلفك شيئًا، ولو أن تلقى يعني أن هذا أمر يسير لا يحتاج إلى شيء من الكلفة، ولو أن تلقى أخاك بوجه طليق، يعني الوجه الطليق المتهلل الذي يظهر عليه البشر، ولهذا قال النبي ﷺ: تبسمك في وجه أخيك صدقة[5]، فهذا من المعروف وهو من الأمور المحمودة المندوب إليها، وهذا كثير في كلام الأدباء والحكماء، وكلام من تكلموا في الأخلاق أن طلاقة الوجه من الكمالات، ومن الأمور التي يتفاضل بها الناس، وهي مما يحمدون عليه مع أنه ليس فيه مؤونة، إنما هو كسب مودة ودفع عداوة، وما إلى ذلك والناس في هذا يتفاوتون فمنهم من يكون يعني الله -تبارك وتعالى- جعل ذلك خلقة وفطرة وجبلة فيه، يعني هو هكذا وجهه أصلا سبحان الله فهذه نعمة من الله -تبارك وتعالى- على العبد حتى إنه لو أراد أن يظهر بغير هذا المظهر ما استطاع، يعني وجهه أصلا يتهلل وطلق ومبتسم طبيعة يعني حتى في المواطن التي لربما ليس فيها أدنى مناسبة بل لربما المواطن التي يكون فيها الغضب والضيق والضجر أو نحو ذلك، ولربما ظن من لا يعرفه أنه يسخر منه، ويستخف به حينما يرى هذا التبسم في غير موطنه؛ لأنها خلقة وجبلة فتراه في هذا الصغير الذي لا يتكلفها هي خلقة، وتراها في الشاب، وتراها في الكبير خلقة وجبلة، فهذه نعمة من الله كما يقال في الحلم أنه أحيانا يكون جبلة، وكذا الشجاعة والصبر وما إلى ذلك.
وأحيانا يكون هذا على خلاف طبيعة الإنسان، خلقته على خلافه، من غير ضغينة للناس أو كبر أو سوء ظن بهم أو كراهية لمقابلتهم، ومواجهتهم، ولكن هي خلقة هكذا تجدها أحيانا في الإنسان نفسه، وأحيانا تجدها في أهل البيت، وأحيانا تكون لعوامل بيئية تربية معينة تلقاها، مفاهيم خاطئة في الصغر أن الجِد هو هكذا فيحاول أن يدفعه ولا يستطيع، يعني هو هكذا كان يتصور أن الجد، أو أن حياته لربما كان فيها أمور مثلاً من الآلام، أو الأحزان أو المصائب أو غير ذلك، فلربما أثر ذلك عليه، وظهر فيه؛ لكثرته وتتابعه، يعني الابتلاء الكثير، أو نحو ذلك، فيظهر عليه مسحة حزن فيظن الظان أن هذا لا يحب الناس، أو أنه يحمل تجاههم مشاعر غير جيدة، أو نحو ذلك، ولا يكون الأمر كذلك، لكن لا شك أن الكمال أن يظهر الإنسان بوجه يتهلل يملأه البشر، ولا يحقر الإنسان من هذه الأمور، فإن كان يتكلف ذلك فهذا خير ممن لا يتكلفه، ومن لا يتكلفه فهو أفضل من ذاك الذي يتكلفه؛ لأن التكلف يظهر في مثل هذه الأمور، أما من يكون مطيقًا لمثل هذا، وهو ميسور بالنسبة إليه، ويتكلف خلافه، فهذا -نسأل الله العافية- مذموم بلا شك، يعني أنه يلقى الناس بشيء من الوجه العابس، أو نحو ذلك تكبرًا عليهم، ومشاعر سيئة تجاههم فهذا مذموم، ولا يليق بالمؤمن بحال من الأحوال.
والإنسان يحتاج إلى أن يجاهد نفسه لكنه قد يستطيع المجاهدة في أمور من الأخلاق يصبر ويتحمل، وما إلى ذلك، لكن الأمور الظاهرة ما كل الناس يستطيعها ويحسنها فتظهر فيه إذا تكلف، ظهرت ابتسامة مائلة، يعني لربما كان تركها أفضل من إبدائها، يعني ابتسامة عوجاء متكلفة ظاهرة التكلف، وقل مثل ذلك فيما يتكلفه الإنسان أحيانا في بعض المزاولات والتصرفات، مع العلم أنه يوجد من الناس إما لما أعطاه الله من القدر والإمكانات أو لتعلم يتعلمه، يعني يوجد ناس يدرسون دورات وحدثني بعضهم بهذا، يستطيع أن يتحكم في تعابير الوجه، ويكون الرجل في غاية الارتباك، ولا يظهر عليه أدنى شيء، تقول: هذا واثق من نفسه تمامًا والواقع أنه ليس كذلك، وقد ترى الرجل يكون في نفسه من البلاء ما الله به عليم ولا يظهر عليه أدنى شيء، فحينما تعلم هذا وتسأله يقول لك: أنا، بعضهم يقول: هذه دراسة يدرسونها، يعني أشياء معينة يتعلمونها بحيث يستطيع أن يتحكم في تعابير الوجه هذا أمر مكتسب، وهم يتحدثون عن شيء موجود عرفوه وطبقوه.
ومن الناس من لا يكون قد درسه، ولكنه يتمكن من ذلك، ويقدر عليه، وسمعت من هؤلاء ومن هؤلاء ورأيت من لم يدرس ويقول: أنا عندي قدرة على التحكم بتعابير الوجه، حينما أسأله أقول له: لم يظهر عليك أدنى شيء يعني حينما يكون في مصيبة كبيرة ما ظهر عليه أدنى شيء؟
يقول: أنا لا يظهر أصلاً هذا عليّ أمام الناس؛ لأن عندي قدرة على التحكم في تعابير الوجه لا يرى الناس أي تغير، وبعضهم لا درس هذا دراسة، ويقول: لا أظهر الجزع للناس، لا أظهر لهم شيئًا من البؤس، لا أظهر لهم كذا، وإنما أبدو دائمًا بحال طبيعية، فما كل الناس يستطيع هذا، والإنسان ضعيف فإذا أصابه شيء من التعب والإرهاق ظهر في الوجه، وإذا أصابه شيء من الغم والهم والحزن ظهر في وجهه، وإذا تعب واعتلت عافيته ظهر في وجهه، الإنسان ضعيف، والناس ينبغي أن يراعوا مثل هذه القضايا، لا يمكن الإنسان يكون دائمًا على مستوى واحد وحالة واحدة من الارتياح والسرور، وإلى آخره، النبي ﷺ كان أحيانا يخرج لأصحابه وهو لا يكون في حال مما اعتادوا عليه فقد يكون غاضبًا ﷺ، والنبي ﷺ كما هو معلوم يغضب إذا انتهكت محارم الله[6] -تبارك وتعالى- فيرون الفرق.
الحديث الأخير في هذا الباب: وهو حديث أبي هريرة قال: "قبَّل النبي ﷺ الحسن بن علي -رضي الله عنهما- فقال الأقرع بن حابس: إن لي عشرة من الولد ما قبَّلت منهم أحدًا، فقال رسول الله ﷺ: من لا يرحم لا يُرحم[7]، متفق عليه.
الحسن بن علي كان صغيرا قبّله النبي ﷺ وفي هذا مشروعية تقبيل الصغار، فتقبيل الصغار هي رسالة من الكبير يؤديها إلى هذا الصغير فيفهمها على وجهه الأكمل أعني الصغير أنك تحمل تجاهه مشاعر جيدة، هذا الصغير الذي لربما نتصور أنه لا يفهم، أو لا يُدرك هو يُدرك هذه المشاعر إدراكا كاملاً منذ نعومة أظفاره، بل يقول بعض الأطباء: بأن الصغير يتأثر وهو في بطن أمه ببعض الأمور التي تتصل بالمشاعر هكذا قال بعضهم، بل يقولون: إنه إذا ارتفعت الأصوات يتأثر ويضطرب هذا الصغير مشاعر الأم حينما تكون محتدمة وما إلى ذلك تؤثر في هذا الصغير.
فالمقصود أن هذا الطفل الصغير يتأثر بمن حوله، ويعرف من يحبه ومن لا يحبه، ويفرق بين هؤلاء تمامًا فالنبي ﷺ قبّل الحسن، ثم قال الأقرع بن حابس التميمي لما رآه: إن لي عشرة من الولد ما قبّلت منهم أحدًا، وفي بعض الروايات أنه استغرب قال: "أتقبلون صبيانكم؟"[8]، يعني من الناس من يرى أن هؤلاء الصغار أنه لا شأن لهم، ولا يلتفت إليهم، ولا يبدي نحوهم هذه المشاعر إما لغلبة الطبع البيئة الجفاء، وإما أن يكون ذلك لمعنى آخر كأنه يرى أن هؤلاء لا شأن لهم فلا يشتغل بهم لا تقبيلاً، ولا عبثًا، ولا غير ذلك فلا شك أن هذا من الجفاء، وهذه أمور تدعو إليها الفطر أصلاً، يعني حتى البهائم تجد أنها تقوم بمزاولات وتصرفات مع صغارها هي أشبه ما تكون بالتقبيل تشمها حينا بعد حين، والإنسان بطبعه بجبلته المسلم والكافر البر والفاجر يقبل هؤلاء الصغار، ويحبهم فالنبي ﷺ قال في هذا المقام لما قال: ما قبلت منهم أحدًا يعني قط، قال: من لا يرحم لا يُرحم، فدل على أن تقبيل الصغار من الرحمة، والجزاء من جنس العمل، فالذي لا يرحم الناس قد يكون ذلك سببًا لحرمانه من رحمة الله ، وهذه الرحمة لا تختص بالصغار كما هو معلوم، الرحمة للجميع الصغير والكبير، كبير السن، وتكون للبهائم المرأة البغي التي سقت الكلب فغفر لها بسبب هذا العمل اليسير تجاه كلب، فالله المستعان.
نسأل الله أن يعيننا وإياكم على ذكره وشكره وحسن عبادته، والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه.
- أخرجه أبو داود، كتاب الأدب، أبواب النوم، باب في قبلة اليد، برقم (5223)، وضعفه الألباني في تحقيق رياض الصالحين، برقم (895)، وقال: "في إسناده يزيد بن أبي زياد الهاشمي مولاهم قال الحافظ: ضعيف كبر فتغير وصار يتلقن".
- أخرجه أبو داود، كتاب الجهاد، باب في التولي يوم الزحف، برقم (2647)، وضعفه الألباني في ضعيف أبي داود، برقم (455).
- أخرجه الترمذي، أبواب الاستئذان والآداب عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، باب ما جاء في المعانقة والقبلة، برقم (2732)، ضعفه الألباني في تحقيق رياض الصالحين، برقم (896).
- أخرجه مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب استحباب طلاقة الوجه عند اللقاء، برقم (2626).
- أخرجه الترمذي، أبواب البر والصلة عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، باب ما جاء في صنائع المعروف، برقم (1956)، وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم (2908).
- ورد ذلك في كثير من الأخبار في سنة النبي -صلى الله عليه وسلم -كما لا يخفى.
- أخرجه البخاري، كتاب الأدب، باب رحمة الولد وتقبيله ومعانقته، برقم (5997)، ومسلم، كتاب الفضائل، باب رحمته -صلى الله عليه وسلم- الصبيان والعيال وتواضعه وفضل ذلك، برقم (2318).
- أخرجه مسلم، كتاب الفضائل، باب رحمته -صلى الله عليه وسلم- الصبيان والعيال وتواضعه وفضل ذلك، برقم (2317).