السبت 14 / جمادى الأولى / 1446 - 16 / نوفمبر 2024
الحديث على آيات الباب
تاريخ النشر: ٣٠ / جمادى الأولى / ١٤٣١
التحميل: 1115
مرات الإستماع: 1572

مقدمة باب فضل السلام

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فهذا كتاب السلام، والمقصود بالسلام: التحية التي علمها الله -تبارك وتعالى- عباده المؤمنين، كما أن السلام اسم من أسمائه ، فإذا سلم المسلم، وقال: السلام عليكم، فهو يلقي عليهم هذا التسليم الذي له اتصال باسم الله السلام، كما أنه أيضاً بهذا يدعو لهم بالسلامة، وفي آن واحد هو مخبر بذلك عن حاله معهم أنه لا يصل إليهم منه أذى أو مكروه، حينما يقول الإنسان: السلام عليكم، فهو يلقي عليهم هذا الاسم الكريم، ويدعو لهم بالسلامة، وهو مُخبِر لهم بالأمان، وأنه لا يصل إليهم منه ما يكرهون، وهي تحية الله لعباده، سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ [يس:58].

وكذلك هي تحية الملائكة للمؤمنين، وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ ۝ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ [الرعد:23، 24].

وكذلك هي تحية أهل الإيمان في الجنة، تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ [الأحزاب:44]، أي: ما يحيي به بعضهم بعضاً، وما يحييهم به ربهم، وما تحييهم به الملائكة -عليهم الصلاة والسلام.

هي التحية التي علمها الله لآدم وأخبره أنها تحيته، وتحية بنيه، والملائكة حينما دخلوا على إبراهيم ﷺ حيوه بهذا، وحياهم به.

فهي خير تحية، وهي خير من قولهم: حياك الله؛ لأنه كما ذكرت في بعض المناسبات أن قولهم: حياك الله هو دعاء له بالحياة، والحياة الدعاء بها بمجردها قد لا يكون خيراً للإنسان، فقد سأل رجل النبي ﷺ: أي الناس خير؟ قال: من طال عمره، وحسن عمله، قال: فأي الناس شر؟ قال: من طال عمره وساء عمله[1].

فقد يكون طول الحياة ضررًا على الإنسان، وكما قال الشاعر:

المرءُ يأمَلُ أن يعيش وطولُ عيشٍ قد يضرُّه
تفنى بشاشتُه ويبقى بعد حلوِ العيشِ مُرُّه
وتخونه الأيامُ حتى لا يرى شيئًا يسرُّه

بل إن بعضهم كان يتمنى الموت ويقول:

ألا موتٌ يباع فأشتريه  فهذا العيشُ ما لا خير فيه
ألا رحِم المهيمنُ نفسَ حرٍّ تصدق بالوفاة على أخيه

فهذه التحية حينما يقال: السلام عليكم لا تقارن بقولهم: حياك الله، لكن لا بأس لو أن الإنسان لقي صاحبه فسلم عليه، وقال له أيضاً: حياك الله، وكيف أصبحت؟، كيف أمسيت؟ أو نحو هذا، فلا إشكال في هذا.

قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى...}

يقول: باب فضل السلام، والأمر بإفشائه، قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا [النور:27].

"تستأنسوا": فسره أكثر أهل العلم بالاستئذان، ولكنه أشكل على ذلك أنه قال: وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا، مع أن الذي جاء في السنة أن الاستئذان يكون بعد السلام، ويدل على ذلك حديث أبي موسى الأشعري لما جاء إلى عمر: قال: السلام عليكم، السلام عليكم، هذا أبو موسى، السلام عليكم، هذا الأشعري[2]ثلاثًا، يستأذنه، فيبدأ بالسلام، ثم الاستئذان.

تقول: السلام عليكم، أأدخل؟ فهنا قدم الاستئذان، فمن أهل العلم من يقول: إن الواو لا تقتضي الترتيب، ويخرج من هذا السؤال، ومنهم من يقول: إن البدء كما جاء في الآية بالاستئذان، ثم السلام، ومن أهل العلم من حاول أن يحرر لفظة الاستئناس، فقالوا: إن الاستئناس "استأنس" الألف والسين والتاء للطلب، يعني: يطلب الأنس، وهو خلاف الوحشة، وهذه المادة تقال لهذا المعنى، يعني: استأنس، أي: ارتفعت عنه وزالت الوحشة، وتأتي لمعنى آخر: آنس بمعنى علم، إِنِّي آنَسْتُ نَارًا [طه:10].

يعني: شعر بها، وعلم بها، فيكون ذلك بمعنى العلم، فهي تأتي لهذين المعنيين، ولهذا جمع بينهما بعض أهل العلم، وقال: إن قوله: حَتَّى تَسْتَأْنِسُواليس معناه تستأذنوا، وإنما فسره السلف بغير المطابق، فسروه بسببه، أحيانًا يكون التفسير بالسبب، وأحيانًا باللازم، يعني: فسروه بموجبه، فإذا استأذن الإنسان، فإنه يكون مستوحشًا ومستعلمًا، مستعلمًا هل يأذنون له أو لا؟ هل في الدار أحد أو لا؟ وهو مستوحش ما يدري ما سيخرج عليه من هذه الدار، وماذا سيقال له، ومن سيرد عليه، وكيف سيرد عليه؟.

فقد لا يرد عليه برد مهذب، وقد لا يجد أحداً، فإذا رد عليه وأذنوا له فإنه يأنس بإذنهم، فتفسير تَسْتَأْنِسُوا بمعنى: تستأذنوا، استشكله بعض أهل العلم، قال: ليس معنى "تستأنسوا" تستأذنوا في اللغة، لكن هي تحليلها بهذه الطريقة، أنه تفسير للشيء بموجبه، بسببه، فهذا الاستئناس يحصل بسبب إذن هؤلاء أصحاب الدار، فالاستئذان طريق إلى الاستئناس حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا [النور:27]، بالطريقة التي ذكرت آنفًا، السلام عليكم، أأدخل؟

قوله تعالى: {فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ...}

وقال تعالى: فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً [النور:61]، يعني: سواء كانت هذه البيوت بيوتكم، أو بيوت من أُذن لكم بدخول بيوتهم، أو كان ذلك من سائر البيوت فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ النفس هنا تحتمل أن يكون المراد بها أي: على من فيها، على غيركم، على إخوانكم، على من في داخلها من أهل، ونحو ذلك، على أصحاب هذه البيوت.

والنفوس لربما نُزلّت منزلة النفس الواحدة، كما قال الله فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ [البقرة:54]. أي: فليقتل بعضكم بعضاً.

وكذلك أيضاً في قوله: وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ [البقرة:188]، يعني: لا يأكل بعضكم مال بعض، ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ [البقرة:85]، يعني: يقتل بعضكم بعضاً.

قوله هنا: فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ سلموا على من وجدتم فيها، كما أنه أيضاً يحتمل أن يسلم الإنسان على نفسه، وبهذا قال جماعة من السلف، بأنه إذا لم يجد أحدًا، أو دخل بيته، وليس في البيت أحد، فإنه يسلم على نفسه، وكذلك من وُجد في هذا البيت من ملك، الملائكة تدخل البيوت التي ليس فيها صور ولا كلاب، وقد يوجد فيها من الجن المسلمين، فيسلم الإنسان على كل حال، حتى لو لم يكن في البيت أحد.

تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ أنه هو الذي علمنا إياها، هو الذي شرعها، أمر بها، مُبَارَكَةً طَيِّبَةً كثيرة البركات، ليست كتحية الجاهلية مثلاً، وهي طيبة في لفظها، وطيبة في مضامينها ومعناها، وطيبة في آثارها.

قوله تعالى: {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا}

وقال تعالى:وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا [النساء:86]، "إذا" شرطية، وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ أيّ تحية، يعني: لو قال لك إنسان مثلاً: صبحك الله بالخير، ترد عليه بأفضل منها.

فإذا قال لك: السلام عليكم، تقول: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا، يعني: بالمثل.

قوله تعالى: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ}

وقال تعالى: هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ [الذاريات:24]،"ضيف" هنا بمعنى أضياف؛ لأن الضيف هنا بمعنى الجمع، بمعنى العموم، "ضيف إبراهيم"، أضيف إلى معرفة -الاسم العلم، وذلك يكسبه العموم، يكون بمعنى الجمع، يعني: أضياف إبراهيم، وهم الملائكة المكرمون، يعني: أنهم كذلك عند الله -تبارك وتعالى- كما قال الله عن الملائكة: فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ ۝ مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ ۝ بِأَيْدِي سَفَرَةٍ ۝ كِرَامٍ بَرَرَةٍ [عبس: 13-16].

وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ ۝ كِرَامًا كَاتِبِينَ [الانفطار: 10-11]، فوصفهم بهذا، فهم عند الله كذلك، وكذلك عند إبراهيم ﷺ، أكرمهم قام على ضيافتهم بنفسه، وزوجته قامت معه كذلك بصنع الطعام، إلى آخره.

إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ [الذاريات:25]، "فقالوا" الفاء تدل على التعقيب المباشر، وهذا يدل على أن أول ما يبدأ به هو السلام.

وقد جاء عن النبي ﷺ النهي عن إجابة من بدأ بالسؤال، أو الكلام، قبل السلام فيقال له: السلام أولاً، النبي ﷺ قال: فلا تجيبوه[1].

قال: إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا، والتقدير سلمنا عليك سلامًا، جملة فعلية، فرد عليهم بتحية أبلغ، قال: "سلامٌ" أي: دائم عليكم، فكانت تحيته أبلغ من تحية الملائكة.

والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.

  1. أخرجه الطبراني في المعجم الأوسط (1/ 136)، رقم: (429)، وابن السني في عمل اليوم والليلة، رقم: (214)، وأبو نعيم في الحلية (8/ 199).

مواد ذات صلة