الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
ففي باب آداب المجلس والجليس، أورد المصنف -رحمه الله:
حديث حذيفة بن اليمان : "أن رسول الله ﷺ لعن من جلس وسط الحلْقة"[1]رواه أبو داود بإسناد حسن.
وروى الترمذي عن أبي مجلز: أن رجلًا قعد وسط حلقة، فقال حذيفة : "ملعون على لسان محمد ﷺ، أو لعن الله على لسان محمد ﷺ من جلس وسط الحلْقة"[2]، قال الترمذي: حديث حسن صحيح.
هذا الحديث بروايتيْه لا يصح عن النبي ﷺ، وإذا كان لا يصح فلا مانع من الجلوس وسط الحلقة.
والذين صححوا هذا الحديث حملوا ذلك على عدة محامل:
بعضهم يقول كالخطابي: إن ذلك ربما يكون للأذى، بمعنى: أنه يتخطى الجالسين، ثم يجلس وسط الحلقة، فيتأذون بذلك، فلعن لهذا السبب، وعلى هذا القول، وعلى هذا التفسير عند من صحح الحديث: فإنه لو قام أحد الجالسين لسبب أو لآخر؛ ليشرح لهم شيئًا، أو ليوسع لغيره ممن جاء بعده، فقال: اجلس مكاني، وأنا سأدخل وسط الحلقة مثلًا، على قول الخطابي على هذا التفسير: لا إشكال في هذا، على تصحيح الحديث.
وبعضهم يقول: ربما يتأذون به؛ لأنه يحجب وجوههم عن النظر إلى بعضهم، فعلى هذا لا يجلس مطلقًا، هذا عند من صححه، والحديث ضعيف، وإذا كان الحديث ضعيفًا فإنه لا يعمل به.
يقول: "وسْط الحلْقة" بسكون السين، ويقال: وَسَط بفتحها، أما الحلْقة فهي: بإسكان اللام، يقال: حلْقة قرآن، وحلْقة ذكر، وحلْقة برنامج في الإذاعة مثلًا، أو نحو هذا، وأما ما يقوله البعض: حلَقة، بالفتح، فهذا جمع حالق، فلان حالق رأسه، ويقال: هؤلاء حلَقة، جمع حالق، فما يقال مثل: نرحب بكم في هذه الحلَقة، بالفتح، فهذا غلط، وإنما يقال: الحلْقة، بالسكون.
فقوله: خير هنا أفعل تفضيل، يعني: أفضل المجالس، وأخير المجالس؛ لأن خير تأتي بمعنى: أخير، كما قال ابن مالك:
وغالبًا أغناهم خيرٌ وشر | عن قولهم أخيرُ منه وأشرُّ |
يعني أفضل المجالس: الأوسع، وهذا يصدق على معنيين:
المعنى الأول: خير المجالس: أوسعها، أن المجلس يكون واسعًا في نفسه، ما يكون مجلسًا ضيقًا، ويؤخذ من هذا توسعة المجالس إن دعت الحاجة لذلك، كإنسان عنده ضيوف كثير، أو يأتيه ناس كثير، أو نحو هذا، فيوسع المجلس.
ويصدق على معنى آخر: خير المجالس: أوسعها، بمعنى: المجلس الذي تجلس أنت فيه، والمكان الذي تجلس فيه، مثال ذلك: لو يوجد هنا كنب، وهنا، وهنا، فهذا الكنب جالسٌ فيه ثلاثة في غاية التضاغط، وهذا فيه اثنان، فقالوا: تعال اجلس معنا؛ لنكن مثل هؤلاء الثلاثة، فيمكن أن تجلس في واحد بمفردك، وتقول: خير المجالس أوسعها، ويشهد لهذا المعنى قصة هذا الحديث، فعن أبي سعيد الخدري أنه قال: خير المجالس: أوسعها، وذلك لما دخل على قومه في جنازة، والناس قد اجتمعوا، وتأخر عنهم قليلًا، فوجد الناس قد أخذوا مجالسهم، فلما رأوه قام بعضهم؛ ليجلس في مكانه، فأبى، وجلس في مكان آخر، وقال: خير المجالس أوسعها، لاحظ: هو في نفس الغرفة، أو المكان، أو الموضع الذي اجتمعوا فيه، لكنه جلس في مكان لم يضيق فيه على أحد، وقال: خير المجالس أوسعها، فالسعة في المجلس مطلوبة.
وأما ما يقوله العامة: الضيق في النفْس، فليس على إطلاقه، قد يكون الضيق في النفس، وقد لا يكون ضيقٌ في النفس ولكنه قد يضيِّق عليه جدًّا، حتى لا يستطيع أن يستريح إطلاقًا في جلوسه، ولا يتحرك، ولا.. ولا، فالبدن يتأذى كما تتأذى النفس، والنفس تبع له، فإذا تأذى البدن غالبًا تتأذى النفس، والناس ما يحبون الضيق، ومن عادتهم، و طبيعة الإنسان: أنه يحب أن يكون بينه وبين الآخرين مسافة، لكن هذه المسافة بحسب المقام، فإذا كان الإنسان خارجًا للبرية، فهذه المسافة بينه وبين الآخرين قد تكون كيلو مترًا، أو أكثر من كيلو مترات، حسب سعة المكان، وإذا كان المكان فيه شيء من الضيق، وعدم السعة، فالمسافة تكون أقصر؛ ولهذا إذا جاء الإنسان إلى المسجد وفيه سعة، فليجلس، وليبحث عن مكان يكون بينه وبين الآخرين من هنا متر، ومن هنا متر، أو أكثر، لأن الإنسان يحب أن يكون متوسعًا، وإذا سلم الإمام وقام مَن بجانبه، بادر مباشرة للابتعاد عمن بجانبه؛ ليجلس مستريحًا، مسترسلًا في جلسته، مسترخيًا، لا يتكلف فيها، فالضيق يحصل في المجلس.
ولا يقال: الضيق في القبر، فالقبر إما روضة من رياض الجنة، وإما حفرة من حفر النار، فبعض العامة يقولون: اجلس هنا، ولو كان ضيقًا، ويقولون: الضيق في القبر، ليس بصحيح أن الضيق في القبر، بل الضيق في المجلس، وليس في القبر، وإنما يتبادر لهم أن هذا القبر ضيق بهذا اللحد، وما أشبه ذلك.
على كل حال، السعة شيء جيد، وطيب إذا حصلت، والضيق لا تحبه النفوس المعتدلة.
يقول: كثر فيه لغطه، أي: التخليط والكلام الذي لا ينفع، مزاح، وضحك، وكلام في قضايا لا تعنيه، لكن لو أنه تكلم في أعراض الناس فإن هذا لا يغفر بكفارة المجلس؛ لأن هذه حقوق للخلق ما يكفرها قوله: سبحانك اللهم وبحمدك..، إنما اللغو هو الذي قد يتوسع في الكلام، ونحو ذلك.
قال: فقال قبل أن يقوم من مجلسه ذلك بمعنى: أنه لو قام وتذكر فإن هذا لا ينطبق عليه قوله: قبل أن يقوم من مجلسه ذلك.
قوله: سبحانك اللهم وبحمدك، "سبحانك" أي: تنزيهًا لك يا رب، و"اللهم" يعني: يا الله، حذفت ياء النداء، وعوض عنها بالميم، اللهم يعني: يا الله، "وبحمدك" إذا كانت الواو للعطف على "سبحانك اللهم"، فيعني: تنزيهًا لك، وأيضًا حمدًا لك، أو أثني عليك بحمدك، وإذا كانت الواو زائدة، "سبحانك اللهم وبحمدك" يصير: تنزيهًا لك، يعني: أنزهك تنزيهًا متلبسًا بحمدك.
أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك، وأتوب إليك، إلا غفر له ما كان في مجلسه ذلك، وهذا مقيد بأنه لا يقع في أعراض الناس، ومقيد بأن لا يقع أيضًا فيه كبائر؛ لأن الكبائر تحتاج إلى توبة، رواه الترمذي، وقال: حديث حسن صحيح.
وفي الباب أيضًا:
"كان رسول الله ﷺ يقول بأَخَرَةٍ"، بأَخَرَة يعني: يحتمل أن يكون في آخر مجلسه، ويحتمل أن يكون في آخر عمره، وهذا هو الأقرب، ويدل عليه السياق، يعني: في آخر حياته.
والله تعالى أعلم، وصلى الله على نبينا محمد، وآله، وصحبه.
- أخرجه الترمذي، أبواب الدعوات عن رسول الله ﷺ، باب ما يقول إذا قام من مجلسه، رقم: (3433)، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير وزيادته: (2/ 1065)، رقم: (6192).
- أخرجه أبو داود، كتاب الأدب، باب في كفارة المجلس، رقم: (4859)، والحاكم في المستدرك، كتاب الدعاء، والتكبير، والتهليل، والتسبيح، والذكر، من حديث عائشة، رقم: (1827)، ومن حديث أبي برزة الأسلمي، رقم: (1971)، ومن حديث غيرهما، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب: (2/ 216)، رقم: (1517).