- مقدمة باب جواز الشرب من فم القربة ونحوه
- نهى عن اختناث الأسقية
- نهى أن يُشرب من في القِربة
- شرب من في قربة معلقة قائماً
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فهذا باب كراهة الشرب من فم القربة ونحوها، وبيان أنه كراهة تنزيه لا تحريم.
القربة معروفة، وقوله: ونحوها يدخل فيه سائر الأسقية، كالذي يشرب مثلًا مما يكون من الجِرار، إلى عهد قريب كانت موجودة، الناس يستعملونها في البلاد الحارة الجافة، وكان المسجد الحرام والمسجد النبوي يعج بهذه الجرار قبل نحو ثلاثين سنة، من الخزف، أو من الفخار، وكذلك يدخل فيه أشياء تصنع من ألوان من الأشرعة، ولربما علقت قديماً في سيارات الناس، وعلى دوابهم، يقال لها: مَطّارة، ونحو هذا، ويدخل في هذا ألوان أخرى مما يشرب منه الناس اليوم غير الكأس، وإنما يشرب مما يُتخذ كسقاء، والأسقية هي أوعية الشرب الصغيرة، يعني القربة تكون منها كبيرة، ومنها صغيرة، وأما الأسقية فهي الصغار، الأوعية للشراب إذا كانت صغيرة يقال لها: أسقية، والقربة أعم من ذلك.
نهى، والأصل أن النهي للتحريم، ولكن عامة أهل العلم حملوه على كراهة التنزيه، ليست كراهة التحريم، والنهي للتحريم إلا لصارف، ويوجد هنا صارف يصرفه من التحريم إلى الكراهة، كما سيأتي في الحديث بعده.
فهنا نهى رسول الله ﷺ عن اختناث الأسقية.
"الاختناث" بمعنى الليونة والانكسار ونحو ذلك، ويوصف به الناس، ويوصف به أيضاً غيرهم، فاختناث الأسقية، فسره في الحديث، قال: أن تكسر أفواهها، ويشرب منها، هذا في نفس الحديث، وهو ليس من قول النبي ﷺ وإنما هو من قول بعض رواته، إما معمر بن راشد، أو محمد بن شهاب الزهري.
يقول: يعني أن تُكسر أفواهها ويُشرب منها، بمعنى أن يشرب من فم القِربة؛ لأن فم القربة ما يستطيع أن يشرب منه وهي مفتوحة يغرقه الماء، ينهال عليه الماء، فماذا يفعل إذا أراد أن يشرب منها؟ يضغط على فمها، بحيث ما يخرج منه إلا بالقدر الذي يستطيع أن يشربه، فهذا اختناث الأسقية، الشرب من أفواهها.
لماذا نهى النبي ﷺ عن ذلك؟.
من أهل العلم من قال: إنه نهى عنه لمصلحة الشارب، وذلك من أجل أن لا يكون في هذه الأوعية والأسقية شيء يؤذيه، فيخرج إلى فيه.
وذكر بعضهم سبباً لورود الحديث أن رجلاً شرب فدخل في فمه شيء، ولو صح ذلك فهذا يكون علة، ولكن قد يكون للنهي علل متعددة، وهذا ما يسميه الأصوليون بالعلة المركبة.
فهنا يمكن أن يكون لمصلحة الشارب، ويمكن أيضاً أن يكون ذلك قد روعي فيه مصلحة غيره، مصلحة الآخرين، من أجل أن لا يكون سبباً لانتشار الأمراض، أن لا يقذِّره على الآخرين، وإنما يصب من فم القِربة بإناء، ثم يشرب؛ لأن فم القربة هذا حينما يشرب منه فإنه يختلط بريقه ولعابه، ولابدّ أن يرجع شيء منه إلى الماء، ثم مَن جاء يشرب آخرُ وآخرُ، وهكذا يتتابعون، بل قد يتغير طعم القربة بسبب كثرة الأنفاس، وتوارد الناس على الشرب منها مباشرة، ولا زال الناس يأنفون من هذا في الغالب، حينما يشرب الإنسان من في السقاء فإنهم يأنفون من ذلك.
يعني: القربة كما قلنا: تكون صغيرة وكبيرة، أو السقاء شك من الراوي، الأوعية الصغيرة يقال لها: أسقية.
شرب قائماً وهي معلقة، والقِرب عادة تكون معلقة، ما توضع في الأرض، ذلك أدعى للتبريد، ومن جهة أخرى ليكون ذلك صيانة لها، الفئران تخرقها.
أول شيء: دخل عليها النبي ﷺ، هذا إذا سمعه بعض الملبسين قالوا: النبي ﷺ دخل على امرأة، هذا يجوز الاختلاط.
نقول لهم: إذا كان هذا هو الفهم، وأنتم تزعمون في هذه المرحلة مؤقتاً بأنه يجوز الاختلاط، ولا يجوز الخلوة، نقول لهم: هو دخل عليها وخلا بها إذن، يجوز الخلوة، لماذا أخذتم الآن الاختلاط دون الخلوة؟.
من قال لكم: إنه دخل ولم يوجد عندها أحد من محارمها، من قال لكم هذا؟
وهو القائل ﷺ: إياكم والدخول على النساء كيف يخالف ﷺ قوله بفعله؟، قالوا: أفرأيت الحمو؟ قال: الحمو الموت[2].
يعني: كما يقال: الأسد الموت، لشدة خطره، أو لأنه يفضي إلى الهلكة بذهاب العرض والشرف.
فالشاهد أن النبي ﷺ دخل عليها، ولا يمنع أن يكون معها من محارمها، وهذا هو مقتضى نهى النبي ﷺ.
فشرب من في قربة معلقة قائماً. هنا يوجد في هذا الحديث شيئان:
الأول: أنه شرب قائماً، وقد نهى عن الشرب قائماً، وقال: لو يعلم الذي يشرب وهو قائم ما في بطنه لاستقاءه[3].
وقال: لا يشربن أحد منكم قائماً، فمن نسي فليستقئ[4].
ورأى رجلاً يشرب قائماً، فقال له: قِه قال: لمه؟ قال: أيسرك أن يشرب معك الهر؟ قال: لا، قال: فإنه قد شرب معك من هو شر منه، الشيطان[5]، فيه نهي.
وشرب النبي ﷺ قائماً من زمزم[6]، لكن متى هذا؟ حينما كان ذلك في مكان لم يتمكن معه للجلوس فشرب، فهنا يمكن أن يكون النبي ﷺ شرب من هذه القربة؛ لأنه لا يوجد مثلًا شيء يشرب به من كأس ونحوه.
ويحتمل أنه فعل ﷺ ذلك بياناً للجواز، فيكون قد فعل هذا الشيء -ولو كان مكروهًا- ليبين أنه يجوز، أو لأنه يجوز للحاجة كما قيل:
قد يفعل للمكروه مبينا أنه للتنزيه.
فهو في حقه من القُرب، كالنهي أن يُشرب من فم القِرب.
يعني: يمثل به الأصوليون على هذه المسألة، أنه ينهى عن شيء، ثم يفعل ليبين أن النهي للتنزيه، فيكون في حقه قُربة، باعتبار أنه مُشرِّع ﷺ، في حقه يكون من القُرب، من الطاعات.
فشرب قائماً، وشرب أيضاً من فم القِربة، فدل على أن النهي ليس للتحريم، بعضهم قال: هذا مختص به ﷺ؛ لأن الناس يتبركون بسؤره ﷺ، ولا يمكن أن يستقذر هذا.
وعلى كل حال، فيه نهي، وهذا النهي يدل على أنه ليس للتحريم، أو يمكن أن يقال: للحاجة لا بأس، وكما قلت في مناسبات شتى: إن من الناس من يضره العلم، كما قال النبي ﷺ: وإن كل ما أنبت الربيع يقتل حَبَطًا أو يُلم[7].
بعض الناس يسمع مثل هذا ويقول: كنا نتحرز من زمان، ونسمع أنه فيه نهي، فيحمله ذلك على الشرب قائماً، وعلى الشرب من فم القربة، وما في معناها.
فبدلا من أنأنأأااا يرجع بزيادة في العمل، يرجع بنقص، نسأل الله العافية.
تقول: فقمت إلى فيها فقطعتُه، قطعتْه لماذا؟ تبركاً بأثر رسول الله ﷺ، وهذا مما يجوز التبرك فيه.
وبعض أهل العلم يحمل ذلك على أنها أرادت أن تنزه هذا الموضع الذي لامس فم النبي ﷺ عن أن يمسه أحد، لا يُبتذل.
وسواء كان هذا أو هذا، يجوز التبرك بآثاره ﷺ لا إشكال، وذكرت في بعض المناسبات أنه لا يُعرف إطلاقاً شيء من الآثار الثابتة عن رسول الله ﷺ الآثار الحسية في عصرنا هذا أبداً، لا من سلاحه، ولا من شعره، ولا من ثيابه، ولا من غير ذلك.
كل ما يُزعم ويقال لا يثبت منه شيء، ومن ثَمّ فالاشتغال بمثل هذه المسألة اليوم لا يترتب عليه عمل، والله أعلم.
وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.
- أخرجه الترمذي، أبواب الأشربة عن رسول الله ﷺ، باب ما جاء في الرخصة في ذلك (4/ 306)، رقم: (1892).
- أخرجه البخاري، كتاب النكاح، باب لا يخلون رجل بامرأة إلا ذو محرم، والدخول على المغيبة (7/ 37)، رقم: (5232)، ومسلم، كتاب الآداب، باب تحريم الخلوة بالأجنبية والدخول عليها (4/ 1711)، رقم: (2172).
- أخرجه أحمد (13/ 216)، رقم: (7808).
- أخرجه مسلم، كتاب الأشربة، باب كراهية الشرب قائما (3/ 1601)، رقم: (2026).
- أخرجه أحمد (13/ 381)، رقم: (8003).
- أخرجه البخاري، كتاب الأشربة، باب الشرب قائما (7/ 110)، رقم: (5617)، ومسلم، كتاب الأشربة، باب في الشرب من زمزم قائما (3/ 1602)، رقم: (2027).
- أخرجه البخاري، كتاب الرقاق، باب ما يحذر من زهرة الدنيا والتنافس فيها (8/ 91)، رقم: (6427)، ومسلم، باب تخوف ما يخرج من زهرة الدنيا (2/ 728)، رقم: (1052).