الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فهذا باب كراهية الأكل متكئاً.
الكراهية يطلقها أهل العلم أحياناً ويريدون بها الكراهة التحريمية، ولهذا نص بعض أهل العلم على أن الاتكاء على الأكل أنه محرم، ومنهم من حمل ذلك على الكراهة التنزيهية.
وذلك أن الاتكاء من فعل أهل الكبر، والتعاظم، وذلك لا يصلح للمؤمن، والنبي ﷺ من أعظم الناس، ومن أكثر الناس تواضعاً.
لكن ما هو الاتكاء؟، النووي -رحمه الله- ذكر قول الخطابي أن المتكئ هو الجالس معتمداً على وطاء تحته.
والوطاء مثل المهاد.
الجالس معتمداً على وطاء تحته، قال: وأراد أنه لا يقعد على الوطاء والوسائد كفعل من يريد الإكثار من الطعام، بل يقعد مستوفزاً، لا مستوطئاً، ويأكل بُلغةً، هذا كلام الخطابي.
وعلى كلام الخطابي جلستي هذه تعتبر اتكاء، ولو لم أكن معتمداً على شيء، هذه الجلسة تعتبر اتكاء، على قول الخطابي، وعلى قول ابن القيم، وعلى قول جماعة كثيرة، بل هو قول عامة أهل العلم.
وهذا أصل معناه في اللغة، يعني: هذا المعنى الذي ذكره الخطابي هو أصل المعنى اللغوي، واللفظ إذا لم يرد له تحديد من قبل الشارع يعني: لم يكن له معنى شرعي فإنه ينتقل إلى المعنى العرفي، عرف المخاطبين، فإن لم يكن له عرف، إن لم يكن له معنى في عرفهم فإنه ينتقل إلى كلام العرب في اللغة، فما هو المعنى في لغة العرب إذن؟ هو هذا الذي ذكره الخطابي، هو الذي يذكر في كتب اللغة: الجلوس معتمداً على وطاء تحته، يعني: الجلوس متمكناً، يعني: لا يجلس مستوفزاً، فيدخل فيه مثل هذه الجلسة.
لو أنه حصل اعتماد كما لو اعتمد بظهره مثلاً، فهذا اتكاء، لو حصل اعتماد على يده، على مرفقه، هذه أوضح بالاتكاء في الطعام، وليس دائماً، وهي جلسة أهل الكبر والتعاظم، وكذلك لو أنه اعتمد على إحدى يديه، فهذا اتكاء اعتماد على اليد، بل ذكر بعضهم أن هذا فيه تشبه بالشيطان في جلسته.
وأيضا من أهل العلم من قال: إن الاتكاء هو أن يميل على جنبه، ولكن المشهور هو الأول.
والحافظ ابن القيم -رحمه الله- ذكر للاتكاء ثلاث صور، قال: كل ذلك اتكاء، وذلك في كتابه زاد المعاد.
الأولى: التربع، هذا اتكاء، والثانية: أن يجلس مائلًا، والثالثة: أن يعتمد على إحدى يديه، فإذا اعتمد على الثنتين فهذا أبلغ في الاتكاء، هذا كله اتكاء.
كيف كان يجلس النبي ﷺ؟
قال الخطابي: بل يقعد مستوفزاً لا مستوطئاً، ويأكل بُلغةً.
الحديث الآخر:
والمقعي: هو الذي يلصق إليتيه بالأرض، وينصب ساقيه، كالمحتبي، هذه يقال لها إقعاء، فالذي يجلس بهذه الطريقة متواضع، هذه جلسة يعني: كما يقول بعضهم: جلسة المماليك، وليست جلسة الملوك، جلسة المتواضعين، هذا على الأكل.
والجلسة الثانية: التي مضت في الحديث السابق لما تعجب الأعرابي من جلسة النبي ﷺ لما جيء بالقصعة، يقول: فالتفوا عليها، فلما كثروا جثا رسول الله ﷺ.
والجُثوُّ النزول على الركب، ويجلس على ظهور القدمين، فهذه الجلسة جلسة متواضعة لا يجلسها أهل الكبر.
وقد ذكر بعض أهل العلم من الاتكاء الجلوس متربعاً، إضافة إلى أن المعدة في هذه الجلسة تكون متمددة، فيأكل أكثر.
وإنما يأكل بُلغةً، بمعنى أنه يأكل شيئاً يحصل به المقصود من دفع الجوع، وإقامة البدن، ونحو ذلك، لا أن يأكل بشره، ويكثر من الأكل.
الآن يُعلََّم الناس طرق الاستمتاع في الطعام، ويُتحدَّث عن العرب أنهم يأكلون بسرعة، ومن ثم يسبب لهم مشاكل في الهضم، وأن الإنجليز أو الغربيين يأكلون وجبات متتابعة في اليوم خمس أو ست، وأن الواحد يجلس على هذه السندويشة أو على الهمبرجر، يجلس عليها مدة طويلة، يستمتع بأكلها، فأين هذا من الأكل بُلغةً؟ وأين هذا من ألا يجلس متربعاً؟ وأن يجلس مستوفزاً؛ لأنه لا يريد إطالة البقاء والمكث في أكله.
وهذه آداب علمنا إياها الشرع، ولهذا لما تركنا هذه الأمور، ولربما هذا الكلام الذي يسمع الآن يستغربه بعضنا، لبعدنا في الواقع عن تطبيق هذه الأشياء، بل وربما عن التفكير فيها، ولهذا ظهرت أمراض السمنة، وكثرت جدًّا أماكن ما يسمى بالتخسيس واللياقة، والأماكن التي تخفف فيها الأجسام، وبناء الأجسام، وما أشبه ذلك.
وصار الناس يقبلون بقوة على البرامج، حتى رسائل الجوال تأتيك دعايات، إذا أردت أن تخفف الوزن أرسل إلى الرقم كذا، اشتراك بحيث إن الإنسان يتبع طرقًا معينة، ووجدت شركات ومؤسسات توصل أنواع الأطعمة بمعنى أن الذي يريد أن يعمل شيئًا من هذه البرامج من غير أن يجوِّع نفسه ما عليه إلا أن يرتبط بعقد مع هذه الشركة وتوصل له طعاماً بمواصفات معينة من جهة السعرات الحرارية، إلى غير ذلك، ويأكل ويشبع، ولا يحصل له سمنة، وهو لابدّ أن يأكل ويشبع، وأنا لا زلت أتعجب من هؤلاء الذين عملوا هذه البرامج كلها يعجز أحدهم أن يصوم؟ يعجز الإنسان أن يمنع نفسه من الأكل؟ خياطة معدة، وتقطيع أمعاء، نعم من الناس من يكون عنده زيادة في إفراز الغدد، فهذا لا يلام، لكن إذا كانت القضية بسبب الشره في الأكل، فكيف يعجز الإنسان عن أن يفطم نفسه عن بعض الطعام والشراب؟ أو أن يستعين بالصيام يتقرب إلى الله فيه؟، فيحتاج إلى عمليات في المعدة، أو يوضع فيها بالون، أو غير ذلك من أجل أن يشعر بالشبع، ويكتفي بقليل الطعام، والإنسان على ما عود نفسه، إن عودها الشره استمرت، وإن عودها البُلغة ارتاضت، ولذلك تجد الإنسان أحيانا يأكل أكلة يسيرة على الإفطار، وهو صائم، ثم يذهب إلى المسجد يصلي، فإذا رجع لا يجد في نفسه ميلاً إلى الطعام، لكن حينما يجلس جِلسة واحدة، وأمامه أصناف كثيرة من الطعام، فإنه يأكل ولا يشعر إلا بالتخمة بعد ذلك، ويتضرر غاية الضرر.
فالإنسان يستطيع أن يكتفي بالقليل، بما يقيم صلبه، ولا نقول: الناس يجوعون أنفسهم، لكن نقول: الاعتدال في الأمور مطلوب.
والعجيب أن الاسترسال مع الأكل والشرب، بالإضافة إلى الراحة، وقلة الحركة لربما يورث الإنسان آثاراً عكسية، ولذلك تجد بعض الناس الذين لا يتحركون، ولا يذهبون، ولا يجيئون، جالسين دائماً لربما يزهدون في الطيبات، لا زهداً وتقللاً من المباح، لا، لكن نفوسهم لا تقبل عليه.
والسبب هو ما ذكرتُ، كثرة الانغماس في اللذات والمباحات، والتوسع فيها، وكثرة الإخلاد، والسكون والدعة، كل هذا يورث الإنسان هذه الأوصاف فيكون كثير النوم، قليل الحركة، ومن ثَمّ فإن نفسه لا تطلب الطعام.
والله المستعان.
والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.
- أخرجه البخاري، كتاب الأطعمة، باب الأكل متكئا (7/ 72)، رقم: (5398).
- أخرجه مسلم، كتاب الأشربة، باب استحباب تواضع الآكل، وصفة قعوده (3/ 1616)، رقم: (2044).