الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فهذا باب "ما يقوله من حضر الطعام وهو صائم إذا لم يفطر"، وذكر:
قوله ﷺ: إذا دُعي أحدكم فليجب، يعني سواء كان صائماً أو مفطراً، وهذا أمر والأصل أن الأمر للوجوب، وقد استدل بهذا الحديث من قال: إجابة الدعوة مطلقاً واجبة.
ومن أهل العلم من خص ذلك بوليمة العرس، ولعل هذا هو الأقرب -والله أعلم، وما عدا ذلك فإنه يستحب إجابة الدعوة فيه ما لم تكن متضمنة لمنكر، وليس الحديث الآن عن حكم إجابة الدعوة، ولكن هذه إشارة على كل حال إلى هذه الجملة في الحديث، وذلك لما فيه من إشاعة المحبة بين المسلمين، وأيضاً إدخال السرور على نفس المسلم، وذلك إذا أجبت دعوته فإن هذا يؤنسه ويرضى بذلك ويسر.
إذا دُعي أحدكم فليجب، فإن كان صائماً فليصلِّ يعني حتى لو كان صائماً فإن عليه إجابة الدعوة، يذهب، فإن كان صائماً فليصلِّ، ومعنى يصلي أي: يدعو لهم بالبركة والخير وما أشبه ذلك، فيكون بذلك قد أجاب دعوتهم وقدّر ما بدر منهم من توجيه الدعوة إليه، وحضر إلى هذه الدعوة، ثم بعد ذلك إن كان صائماً فإنه يدعو لهم، وليس لقائل هنا أن يقول: أليس ذلك يكون سبباً ومجلبة للمقاصد السيئة من الرياء مثلاً؟.
ليس ذلك بلازم، إنما عليه أن يستجيب لأمر النبي ﷺ لأنه لا يأمر إلا بخير، ويصحح نيته ويعالج قصده، هذا هو المطلوب، ويمكن أن يُسرّ بذلك لصاحب الوليمة دون أن يقول للناس: أنا صائم، ثم يتشاغل عنهم أو ينسلّ أو نحو ذلك، ويستطيع الإنسان أن لا يشعر به أحد حتى صاحب الوليمة أحياناً، ويدعو لهم بالبركة في نفس الوقت، يجلس فإذا أعطوه فنجاناً أخذ، وإذا قدموا له حلوى أخذ، والناس لا يرقبونه هل شرب أو لم يشرب، وإنما يشتغلون بالحديث وما إلى ذلك من مؤانسة، ويظنون أنه مفطر.
ويمكن أن يجلس معهم على الطعام ويتشاغل بأمور، يمكن أن يأخذ شوكة ويقطع لهذا لحماً ويعطيه، ويتشاغل بتقطيع فاكهة ونحو ذلك، ويقرب لمن بجانبه وهو صامت، ويظن الناس أنه يقطع ويأكل من اللحم، ولا يشعرون به، ويدعو لهم، لكن لو كانت الدعوة له وحده؟ سيظهر هذا لهم فيخبرهم أنه صائم، ويصحح نيته ويستحضر عظمة الله ، وأن لا يجمع بين التعب والحرمان من الطعام والشراب مع الوزر إذا كان ذلك رياء وسمعة، لا يجمع بين تعبين وعناءين، ويصحح نيته؛ ليحصّل ما عند الله ، فيكون أشح ما يكون على توفير الأجور وتحصيلها، هذا التعب لا يذهب سدى، الناس يأكلون ويشربون في نهارهم وهو جالس لا يأكل ولا يشرب ومع ذلك بوزر.
ومن أهل العلم من قال: إن قوله: فليصلّ يعني يقوم يصلي نافلة يشتغل بالصلاة، قالوا: لتحصل البركة لأهل الدار، لكن هذا بعيد، وليس لقائل أن يقول: إن الأصل في الصلاة أن تحمل على المعنى الشرعي وهي الصلاة المعروفة، نقول: هذا صحيح لكن هنا السياق يدل على المعنى الآخر، يصلي يعني يدعو خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ [التوبة:103] هؤلاء جاءوا بالزكاة والمعنى: ادع لهم، فكان النبي ﷺ يدعو لهم، وهذا الإنسان أسدوا إليه معروفاً ودعوه وكرموه فالمناسب أن يدعو لهم.
وإن كان مفطراً فليَطعم أما في وليمة العرس فإنه يجب عليه أن يطعم إلا إذا أذن له صاحبها، وطابت نفسه بذلك، يمكن أن يحضر، ويقدر هؤلاء ويستأذن صاحب الشأن، يقول له: أنا الآن مشغول، إن أذنتَ لي انصرفت، فإن لم يأذن له بقي وأكل، يأكل من هذه الوليمة، ولو قليلاً ولو لقمة؛ لأن ذلك يصدق عليه أنه قد طعم.
لو أنه أكل من المقدِّمات قبل ذلك، العشاء مثلاً في بعض النواحي لربما لا يوضع إلا بعد الساعة الواحدة، وهو جاء بعد صلاة العشاء، لا يدري، فإجابة الدعوة في وليمة العرس واجبة، فماذا يفعل؟، جاءوا له بتمر وحلوى، فإذا أكل هل يعتبر هذا قد طعم وأكل من الوليمة؟
يحتمل، لكن هذا هل يقال له: وليمة -أكل التمر-؟
العرف لا يدل عليه، فظاهره أنه يأكل من الطعام الذي وضع وجمع الناس له.