الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فهذا كتاب "أدب الطعام"، والطعام بلغة العرب يطلق بإطلاق واسع يدخل فيه الأكل والشرب، وقد جاء ذلك في القرآن وذلك في قوله -تبارك وتعالى- في سورة البقرة: وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي [البقرة:249]، وذلك في الشرب قطعاً؛ لأنه قال: إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ [البقرة:249] فلو أن أحداً من الناس حلف ألا يطعم فشرب هل يحنث؟ هذا يرجع فيه إلى العُرف، عُرف المتكلم، فإذا كان في عرفهم إطلاق الطعام كما هو المشهور على الأكل خاصة فإنه لا يحنث، وإن كان في عرفهم الإطلاق الواسع كما هو في اللغة فإنه يحنث، قال: والله لا أطعم عند فلان.
ثم ذكر باب التسمية في أوله، والحمد في آخره، والتسمية والحمد معروفان لا يحتاجان إلى تفسير.
هذه ثلاثة آداب علمها النبي ﷺ هذا الغلام، كان صغيراً، وكانت يده تطيش في الصحفة، فعلمه النبي ﷺ هذه الآداب سمِّ الله، وذلك أن يقول: بسم الله، فهذا يتحقق به المطلوب، ومن أهل العلم من زاد، قال: يقول: بسم الله الرحمن الرحيم، ولكن هذا يحتاج إلى دليل.
قال: وكل بيمينك والسبب في ذلك هو أن اليمين تُقدم -كما سبق في الباب الذي قبله- في كل ما هو من باب التكريم، فكانت يمين رسول الله ﷺ لأكله وشربه، وأما اليسار فكما سبق لما كان من أذى[2]، إضافة إلى أن الشيطان يأكل بشماله ويشرب بشماله[3]، وقد يترك الإنسان ذلك جهلاً، وأحياناً كِبراً كالرجل الذي قال له النبي ﷺ، فقال: لا أستطيع، فقال: لا استطعت[4]، فما رفعها، ما منعه إلا الكبر، وأحياناً قد يحصل ذلك للإنسان بسبب أن بعضهم بزعمه قد تلطخت يده اليمنى بالطعام، فهو يريد أن لا يمس الكأس بيمينه؛ لئلا يتلطخ بما يعلق بها من طعام، فيشرب بشماله، وأحياناً هو لن يقوم بغسله إضافة إلى أن كثيراً من الأحيان كما نشاهد لربما يأخذ كأساً من الورق أو نحو ذلك، ومع ذلك بشماله؛ لأنه بزعمه في يمينه بقايا الطعام، ولربما كان من هذه المعلبات المشروبات الغازية ونحوها، ويشرب بالشمال لهذه العلة، يعني ترك السنة ترك أمر النبي ﷺ؛ لأن ظاهر الأمر للوجوب لاسيما أنه دعا على الرجل بعدم الاستطاعة، فدل على أنه يحرم على الإنسان أن يشرب أو يأكل بشماله إضافة إلى أنه تشبه بالشيطان، والتشبه بالشيطان لا يجوز، فاجتمعت فيه هذه الأمور جميعاً، ومع ذلك الإنسان قد يغفل عن هذا، ويؤثر الشرب بشماله لأمر تافه لا يستحق أن يلتفت إليه: أن يده قد اختلط فيها بقايا الطعام فهو لا يريد أن يمسك، طيب أين هذا من أكل الشيطان بشماله؟!.
قال: وكل مما يليك هذا إذا كان الطعام واحداً، نوعًا واحدًا فلا معنى إلى أن تذهب اليد هنا وهناك ونحو ذلك، فمثل هذا تراعى فيه هذه الآداب، لكن لو كان الطعام متنوعاً، يعني لو كان الطعام مثلاً من أنواع من التمر في إناء واحد، ويحتاج أن يأكل من هذا وهذا، أنواع من الحلوى متنوعة في إناء واحد، فهو يأكل من هذا، ومن هذا، ومن هذا، أنواع من اللحم في إناء واحد فيأكل من هذا، وذاك لا بأس، أنواع من الطعام من غير ذلك، يعني بعض هذا الطعام نوع، وبعضه نوع، وبعضه نوع في إناء واحد، فيأكل من هذا، ومن هذا، ومن هذا، أما إذا كان متحداً فإنه يقال فيه هذا؛ لأنه طعام واحد، فهذا العبث لا شك أنه يؤثر على غيره ممن يشاركه في الطعام، وهي أشياء قد يغفل عنها بعض الناس، إما لغلبة الجفاء، أو العادة أو لغير ذلك من تربية وتنشئة، والناس يتأثرون بهذا، كون الإنسان يأكل من هنا وهناك قد لا يستسيغون هذا الطعام، ولا يحبون الأكل معه، فيراعي حالهم ويراعي الأعراف والعادة، ويتلطف، ونحن نشاهد أشياء أحياناً من الناس من ينفر منها، على سبيل المثال يعني مما قد يكون له نوع اتصال بهذا أن كثيرًا من الناس لا يحب أن يعبث أحد في الطعام، فبعض الناس لا يحلو له إلا أن يعبث، أمامه تمر صحن لازم يوازنه، يشيل هذه يحطها هنا، وهذه يحطها هناك، وهذه ينقلها من هنا إلى هناك، فالناس لا يستسيغون هذا، وكلما جلس هو معروف بهذا بدأ يرتب هذا التمر، فيأخذ هذا وينظر إليها ثم يضعها هناك، والثانية يضعها، لا، في فجوة هنا نضعها فيها، فهذا غلط، والناس اليوم تغيروا تغيرت عاداتهم، في الأول كان يأكلها مع التراب، وكان الرجل مما يذكره من أدركهم ولا زال بعضهم أحياء كان إذا حضر وليمة يحكي بعض أهل العلم يقول: شيء أدركناه، يقول: كان الرجل يجلس ويأكل، وإذا تغافل الموجودون وضع بعض اللحم في جيبه لأولاده، لأنه متى يجد لحمًا؟ بل حدثني أحدهم أنه دخل خادمه وزاحم الناس، الخادم من البادية -هذا كلام قبل أكثر من سبعين سنة- زاحم الناس في وليمة أقيمت لهذا ولم يدخل أنفة، فازدحم الناس على الباب ودخلوا من البادية الأعراب، فدخل خادمه وزاحم وجاء له بقطعة من لحم، أين وضعها؟ الناس يلبسون البشت، في السابق كل الناس يلبسونه ويعتبرونه من المروءات، وضعها تحت البشت لا يراها أحد تحت إبطه ويتكلم مع الناس، وجاء إليه وأخرجها وقال: أنا أعرف أنك لن تدخل، لكن أتيت لك بهذه، فهذا طبعاً ما أكل، هو لم يدخل معهم فضلاً عن أن يأكل، هذه التي جاء له بها أشبه ما تكون أنه أخذها خلسة، وأبعد ما يكون عن النظافة وكذا، فالناس تغيروا الآن، تغيروا كثيراً، وقد رأيت بعض الناس يعني لا يصبر يحب إكرام من يحضر عنده على طعامه ونحو ذلك، وآخرون يأنفون من أن يضع لهم أحد شيئاً من لحم أو نحو ذلك، ويبررون هذا أن اليد هذه التي يأكل فيها الإنسان مختلطة باللعاب، ثم يأتي ويقطع من هذا اللحم ويضع لهم، فيختلط ذلك بريقه ولعابه، فلا يستسيغون هذا، فرأيت بعضهم يتظاهر أنه يأكل ثم يضعها تحت هذا، طيب هذا الرجل سيحمل هذه الصحفة مثلًا وسيرى ذلك مجتمعًا تحتها، هذا لا يليق، ولا يسوغ، ولا يحسن مقابلة إكرام هذا الرجل بمثل هذه التصرفات، لكن لو كف الإنسان من البداية، وترك الناس كما يهوون يأكلون كما يريدون، ويكتفي بالترحيب، وإن كان ولابدّ فيستطيع أن يأتي بسكين ويقطع لهم، ثم يأتي له بشيء يمكن أن يحمل به اللحم، ويعطي هذا ويعطي هذا بطريقة كما يقال: أكثر تحضراً؛ لئلا ينفر منه أحد، يعني لا تكن ثقيلاً على أحد، مهما استطعت أن تكون خفيف ظل على الآخرين فافعل، مهما استطعت فافعل.
قوله: إذا أكل أحدكم فليذكر هذا أمر منه ﷺ إن نسي، فإن نسي أن يذكر اسم الله تعالى في أوله فليقل ذلك، وفعلها رجل بين يدي رسول الله ﷺ فلما كاد أن ينتهي من الطعام، قال: بسم الله في أوله وآخره، فالذي يحصل أن الشيطان يخرج ما أكله، ولا يستطيع أن يأكل، لكن هنا لو أعملنا مفهوم المخالفة في قوله: فإن نسي، طيب لو تركه عمداً فإن مفهومه أنه لا يفيده أن يقول ذلك.
قال: فإن نسي، فإنْ تعمد ترك التسمية فإن مقتضى مفهوم المخالفة أنه لا يقول ذلك؛ لأنه لا يفيد، لكن من أهل العلم من يقول: إنه جرى هنا على الغالب، مفهوم المخالفة حجة لكن لا يعمل به في نحو سبعة مواطن، سبع حالات تقريباً أو ثماني، أحد هذه الحالات أن يكون الخطاب جرى على الغالب، يعني هنا الخطاب جرى على الأغلب، والأغلب أن المسلم لا يترك التسمية اختياراً هكذا، فقال: فإن نسي؛ لئلا يظن بالمسلم أنه يتعمد ترك التسمية، ومن ثَمّ قال: فإن نسي فليقل: بسم الله أوله وآخره، طبعاً ليس لأحد أن يقول: ووسط الطعام؟ يقال: هذا خارج عن أسلوب العرب، هذه عجمة في الفهم؛ لأنه إن قال: بسم الله أوله وآخره تضمن ما بين ذلك، فالعرب تذكر طرفي الشيء؛ ليشمل ذلك الجميع، كما يقول الله : وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ [البقرة:115] فليس لأحد أن يأتي ويقول: والوسط، والشمال، والجنوب؟.
تُذكر الأطراف ليشمل الجميع هذه لغة العرب، فلو جاء إنسان وتلكأ في الفهم هنا يقال له: هذه عجمة في الفهم، أنت لا تعرف طريقة العرب في المخاطبة.
"إذا دخل" هل يقول: بسم الله يذكر الله بعد دخوله؟ "إذا دخل"، أو المقصود عند الدخول، إذا أراد الدخول؟
الجواب: إذا أراد الدخول، وليس إذا دخل يقول ذلك، قال: فذكر الله عند دخوله "عند" هذه توضح "إذا دخل" أي عند دخوله، وعند طعامه قال الشيطان لأصحابه، هذا يدل على أنهم يأتون يتبعونه، الإنسان معه شياطين، قال لأصحابه: لا مبيت لكم ولا عشاء؛ لأنهم مُنعوا من الدخول فضلاً عن الطعام، والبيت هنا "إذا دخل الرجل بيته" يشمل كل بيت له، إذا دخل خيمة كان مثلاً في الصحراء ساكنًا، أو طالعًا للبر ونصب خيمة فإذا أراد أن يدخل يقول هذا، ولو لم يكن لها باب، يعني مفتوحة، يقول ذلك عند طرفها.
يقول: لا مبيت لكم ولا عشاء، وإذا دخل فلم يذكر الله تعالى عند دخوله، قال الشيطان: أدركتم المبيت، كأنه يبشرهم بهذا، وإذا لم يذكر الله تعالى عند طعامه قال: أدركتم المبيت والعشاء، رواه مسلم.
تصور عدد الذين يتركون التسمية عند الدخول، وعند الأكل، كم نسبتهم إلى أولئك الذين يتذكرون هذا أو يلتزمون به؟ الأكثرية من المسلمين فضلاً عن غيرهم ممن لا يعرفون الله يغفلون عن هذا، إما لغلبة الغفلة عليهم دائماً فهم لا يقولونه، أو لغلبة غفلة عارضة يدخل وهو يتكلم في التليفون، فالشيطان: لا تذكروه دعوه يتكلم، وقد يسلط عليه مكالمة من أجل أن ينسى، فإذا أراد أن يأكل لربما أيضاً أشغله بشيء عن التسمية، فيأكل ولا يسمي، أحياناً يكون الإنسان مسترسلا بالحديث، فيوضع الطعام بين يديه ويتحدث مع آخرين، فيبدأ يأكل ولا يسمي، فهؤلاء الشياطين يأخذون ويأكلون مما لذ وطاب بألوان المطعومات، والولائم، لكن لو أنه دائماً يقول هذا فكيف سيكون هذا الشيطان؟ شاحباً ضعيفاً هزيلاً، لا يجد المبيت ولا يجد العشاء، في نكد وعناء ومسغبة، يشفق عليه بقية الشياطين، معذب، والله المستعان.
والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.
- أخرجه مسلم، كتاب الأشربة، باب آداب الطعام والشراب وأحكامهما، برقم (2018).