الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
ففي باب "التسمية في أول الطعام" أورد المصنف -رحمه الله-:
قول حذيفة : "كنا إذا حضرنا مع رسول الله ﷺ طعاماً لم نضع أيدينا حتى يبدأ رسول الله ﷺ فيضع يده"، هذا من أدبهم مع رسول الله ﷺ وهو داخل في عموم قوله -تبارك وتعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ [الحجرات:1]، فلا يكون التقدم بين يديه ﷺ في شيء من الأشياء لا في رأي واقتراح ونظر، وحكم، أو طعام، أو غير ذلك، وقوله: "كنا إذا حضرنا"، يدل على أن ذلك لأمر يتكرر، فالكون الماضي مع إذا الشرطية يدل على الدوام والتكرر بتكرر شرطه، يعني كلما حضروا حصل ذلك، فعلوا ذلك، وقد يؤخذ من هذا أيضاً -بما أن ذلك من الآداب- أن لا يبدأ الإنسان الطعام قبل أن يبدأ من هو أكبر منه، يعني الأولاد مع أبيهم مثلاً لا يبدءون قبله، وهكذا.
قال: "وإنا حضرنا معه مرة طعاماً فجاءت جارية كأنها تُدفَع"، يعني من جهة الإسراع، والجارية يحتمل أن يكون المراد بها المملوكة صغيرة كانت أو كبيرة فإنه يقال لها: جارية، ويحتمل أن يراد بها الحرة الصغيرة، بنت صغيرة، فذهبت لتضع يدها في الطعام، فأخذ رسول الله ﷺ بيدها، وفي هذا تأديب وتعليم، وهذا قوله: "فأخذ بيدها" يؤيد ويقوي أنها جارية صغيرة.
"ثم جاء أعرابي كأنما يُدفَع"، والأعرابي هو من سكن البادية، فأخذ بيده، وفي هذا أيضاً تأديب وتعليم للكبار والصغار على حد سواء، والناس كثيراً ما يجاملون في هذه الأمور، لربما تجلس على الطعام، وترى هذا يشرب بشماله أو يتكئ على يده، أو نحو ذلك، وهو يأكل، وهذا منكر، ويجبن الإنسان أحياناً عن النصيحة والتعليم.
يقول: "فأخذ بيده، فقال رسول الله ﷺ: إن الشيطان يستحل الطعام أن لا يذكر اسم الله تعالى عليه، وإنه جاء بهذه الجارية ليستحل بها، يعني لا يستطيع الشيطان أن يأكل منه ابتداء، وإنما يأكل بالواسطة، بواسطة من حضر ولم يسمِّ، ولو أن بعضم سمى، ولو سمى الجميع إلا واحدًا فهذا الواحد يستحل به الطعام، يقول: وإنه جاء بهذه الجارية ليستحل بها فأخذت بيدها، فجاء بهذا الأعرابي ليستحل به فأخذت بيده، وذلك لم يقع لأحد من أصحاب النبي ﷺ من أهل العلم والعرفان، وإنما وقع من جارية هي مظنة الجهل، وأعرابي هو أيضاً كذلك.
والذي نفسي بيده إن يده-يعني الشيطان- في يدي، مع يديهما، ثم ذكر اسم الله، وأكل ﷺ.
ثم ذكر المصنف -رحمه الله-:
إذن التسمية تؤثر ولو كانت في آخر لقمة ما لم يفرغ من الطعام، ولو أنه فرغ من الطعام ثم تذكر فماذا يفعل؟ نقول: يسمي، يقول: بسم الله أوله وآخره، ويأكل لقمة بعد ذلك، فيستفرغ الشيطان، وهذا الرجل يحتمل أن يكون سمع النبي ﷺ كما في حديث عائشة وهو الحديث السابق: إذا أكل أحدكم فليذكر اسم الله تعالى، فإن نسي إن يذكر اسم الله تعالى في أوله فليقل: بسم الله أوله وآخره[3]، فقاله، هذا هو الظن، ويحتمل أنه قال ذلك من عند نفسه، فأقره عليه النبي ﷺ، والأول أقرب -والله تعالى أعلم، لكن يوجد في بعض الآثار في غير هذا الموضع ما يدل على أن قائل ذلك سواء كان بعد الركوع -أعني ذكراً قاله- أو نحو ذلك، قاله من عند نفسه، فأقره النبي ﷺ وذكر فضله، فلا يؤخذ من هذا أن الإنسان يجوز له أن يبتكر أشياء من الأوراد والأذكار، ثم يقول ذلك دون أن يرد عن الشارع، لا يجوز، فيدخل في باب البدع، ولكنه في زمن التشريع في زمن النبي ﷺ نقول: هذا الذي أقر عليه رسول الله ﷺ صار من السنة التقريرية، وبعد ذلك انقطع الوحي، فليس لأحد أن يقول شيئاً غير ما ورد.
وكون النبي ﷺ يخبر عن هذا يد الشيطان في يده، وأن الشيطان استقاء ما في بطنه، استقاء معناه أنه أخرج ذلك عمداً، قصداً، يعني أن الشيطان لم يستسغ ذلك، هذا من أمور الغيب، لا يمكن أن يطلع عليها إلا بإطلاع الله للعبد، والشيطان لا يستسيغ أبداً الشيء الذي ذُكر اسم الله عليه، وإذا كان إنسان قد تلبس به شيطان من الشياطين فرُقِي وصرع مثلاً، أو أفاق، لو جيء له بماء، هو يطلب ماء؛ لأنه يجد حرارة في جوفه مع القراءة، فيطلب ماء بكثرة ويشرب بنهم، لكن لو أنه جيء له بماء قرئ فيه فقط بسم الله الرحمن الرحيم دون أن يشعر -في مكان آخر، ثم تأتي لا يمكن أن يشرب، وإذا أردت أن تسقيه بشيء من الإلزام والإكراه فإن الماء يخرج من أنفه ربما، وإذا صببته صبًّا في جوفه فإنه لا يتمالك حتى يخرج كل ما صُب فيه، هذا شيء مشاهد، فهو لا يستسيغ أبداً مع أنه لم يرَ ذلك، وقد جُرب هذا، وهو شيء مشاهد، يعني بمجرد ما يأتي إنسان من مكان آخر من غرفة أخرى ما شاهده، هذا مصروع هنا بمجرد ما يقول: بسم الله، ويأتي به يعطيه الكأس الآخر الذي ما قيل فيه هذا يشربه شربة واحدة، ويطلب الزيادة، فهذا حال الشيطان، نسأل الله أن يعيذنا وإياكم منه.
والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.
- أخرجه مسلم، كتاب الأشربة، باب آداب الطعام، برقم (2017).
- أخرجه أبو داود، كتاب الأطعمة، باب التسمية على الطعام، برقم (3768)، وأحمد في المسند، برقم (18963)، وقال محققوه: "إسناده ضعيف لجهالة المثنى بن عبد الرحمن الخزاعي، فقد تفرد بالرواية عنه جابر بن صبح، ولم يؤثر توثيقه عن غير ابن حبان، وقد جهله ابن المديني والذهبي، وباقي رجال الإسناد ثقات، بعضهم رجال الصحيح"، والحاكم في المستدرك، برقم (7089)، وقال: "هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه"، وضعفه الألباني في ضعيف الجامع، برقم (6113).
- أخرجه أبو داود، كتاب الأطعمة، باب التسمية على الطعام، برقم (3767)، وصححه الألباني في تحقيق مشكاة المصابيح، برقم (4202)، وفي صحيح الجامع، برقم (1323).