الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
ففي باب "الحياء وفضله والحث على التخلق به" أورد المصنف -رحمه الله-:
قوله ﷺ: الإيمان بضع وسبعون أو بضع وستون شعبة مضى الكلام على هذا الحديث في باب "كثرة طرق الخير"، وقوله ﷺ: بضع وسبعون أو بضع وستون هذا شك من الراوي، وإلا فإن النبي ﷺ ذكر أحد الأمرين، ومعنى البضع: كثير من أهل العلم يقولون: ما بين الثلاثة إلى العشرة، وبعضهم يقول: ما بين الاثنين إلى العشرة، وبعضهم يقول: ما بين الاثني عشر إلى العشرين، وبعضهم يقول غير ذلك، وهنا: بضع وستون معنى ذلك أنه ما بين الثلاثة إلى العشرة، يعني ما بين ذلك من ثلاثة إلى تسعة، أو بضع وسبعون شعبة، والبضع هو الجزء من الشيء.
وقوله ﷺ: فأفضلها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، شعب الإيمان -أعمال الإيمان- تتفاضل وتتفاوت؛ ولهذا فإن الله -تبارك وتعالى- يقول: وما تقرب إليّ عبدي بشيء أحبَّ إليّ مما افترضته عليه، فالفرائض أفضل من النوافل، كما أن الفرائض تتفاوت، وكذلك أيضاً النوافل تتفاوت، فالأعمال الصالحة منها ما هو عظيم جليل كبير كأركان الإسلام، والجهاد في سبيل الله.
ومنها ما هو دون ذلك كإماطة الأذى عن الطريق، والنبي ﷺ يقول: لا تحقرن من المعروف شيئًا ولو أن تلقى أخاك بوجه طلق[2]، فهذا من المعروف، ويقول: اتقوا النار ولو بشق تمرة[3]، فهذا للتقليل، فالتصدق بشق التمرة ليس كمن بذل مهجته في سبيل الله ، وهكذا أيضاً من قام الليل وصام النهار ليس كمن صلى ركعة أو ركعتين، أوتر بركعة، مع أن ذلك من العمل الصالح، ويُذكر عن عائشة -ا- أنها تصدقت بعنبة، وقالت: "كم فيها من مثقال ذرة، فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ [الزلزلة:7-8]"[4]، فالميزان بمثاقيل الذر، والعمل الصالح اليسير في نظر الناس قد يكون سببًا لبلوغ الإنسان أعلى الدرجات، أو دخول الجنة، المرأة التي أعطتها عائشة ثلاث تمرات ومعها بنتان، فأعطت واحدة تمرة والأخرى تمرة، ولما أرادت أن تأكل الثالثة طلبت ابنتاها هذه التمرة، فشقتها نصفين وأعطتهما، وأخبرها النبي ﷺ أنها دخلت الجنة بهذا[5]، فالمقصود أن شعب الإيمان تتفاوت.
الإيمان عند أهل السنة والجماعة قول وعمل، يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، فإذا أكثر الإنسان من الأعمال الصالحة فهذا زيادة في الإيمان، سواء كانت هذه الأعمال باللسان، أو بالجوارح، أو كانت من أعمال القلوب، كالخوف والرجاء والتوكل والمحبة ونحو ذلك، المقصود أن النبي ﷺ قال: فأفضلها قول لا إله إلا الله، هذه أفضل كلمة، وهي مفتاح الجنة، وهي ما يُدخَل به إلى الإسلام، وهي آخر ما يخرج به من الدنيا، من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة[6]، وهي أصدق كلمة.
وأدناها إماطة الأذى عن الطريق وهذا في نظر الناس شيء يسير، وجد شوكة أو وجد قذراً أو أذى فأزاله فهذا من الإيمان، من شعب الإيمان؛ ولهذا جاء الحليمي في كتابه "المنهاج في شعب الإيمان"، وهو مطبوع في ثلاثة مجلدات، طباعة تحتاج إلى إعادة، أن يعاد العمل في هذا الكتاب، ويعتنى به، لكن ذكر بضعاً وسبعين شعبة من شعب الإيمان، عدّدها، ثم جاء البيهقي فضمن ذلك في كتاب له كبير قد حُقق في أكثر من عشرين مجلداً اسمه "الجامع في شعب الإيمان"، جاء بعامة ما ذكره الحليمي، وزاد عليه من الأخبار والآثار من الأحاديث المرفوعة، والآثار الموقوفة، وغيرها أشياء كثيرة جدًّا، وجعل في مضامين ذلك من كلامه وتعليقه، وهو كتاب حافل، وهذه الشعب يحتاج الناس إلى اعتناء بها ومدارسة، وهذا الكتاب لو أنه جُرد من الروايات الضعيفة والأقوال المخالفة لاعتقاد أهل السنة والجماعة لكان في غاية النفع، يُقرأ في المساجد، يتدارسه الناس.
يقول: والحياء شعبة من الإيمان هذا هو الشاهد.
وإذا كان الحياء من الأعمال القلبية -في الأصل عمل قلبي تظهر آثاره على الجوارح- فدل ذلك على أن شعب الإيمان منقسمة؛
إذا كان الحياء من الأعمال القلبية -في الأصل عمل قلبي تظهر آثاره على الجوارح- فدل ذلك على أن شعب الإيمان منقسمة؛
ولهذا البيهقي -رحمه الله- ذكر في "شعب الإيمان" الخوف والرجاء والحياء، ذكر أشياء كثيرة من الأعمال القلبية كما ذكر أشياء تتعلق باللسان، تكلم عن القرآن وقراءة القرآن بكلام طويل في مجلدين تقريباً.
يقول المصنف -رحمه الله: البضع بكسر الباء ويجوز فتحها: وهو من الثلاثة إلى العشرة، والشعبة: القطعة والخصلة، والإماطة: الإزالة، والأذى: ما يؤذي كشوك وحجر وطين ورماد وقذر، ونحو ذلك.
العذراء هي البكر، ويضرب بها المثل في حيائها، وقيل لها عذراء بعض أهل العلم يقول: أخذاً من العُذرة التي هي الجلدة التي تكون للبكارة، وفي خدرها: ستر يوضع في ناحية البيت للعذراء، والمقصود حينما يختلي بها زوجها، فهي لا عهد لها بالرجال، في غاية الحياء، ولم تعتد مخالطتهم، ولا مكالمتهم فتكون في حال شديدة من الحياء، فهذا فيه وصف بليغ لحال النبي ﷺ في شدة حيائه، إذا رأى شيئاً يكرهه عُرف ذلك في وجهه ﷺ، كيف يُعرف بالوجه؟ حمرة الوجه، وما إلى ذلك مما يدل على الحياء، يعني حينما يصدر من إنسان تصرف مخجل، تصرف لا يليق يستحي منه صاحب المروءة الكاملة يظهر ذلك في وجهه ﷺ، حينما يتكلم في المجلس أحد بكلام لا يليق، يعني أن ذلك مما يُستحيى منه يظهر ذلك في وجهه ﷺ.
ثم ذكر كلام أهل العلم وختم به في تعريف الحياء، وقد ذكرته في البداية قال: "حقيقة الحياء خلق يبعث على ترك القبيح، ويمنع من التقصير في حق ذي الحق"، ونَقل عن أبي القاسم الجنيد أنه قال: "الحياء رؤية الآلاء، ورؤية التقصير فيتولد بينهما حالة تسمى الحياء"، وتكلمت كما سبق عن هذه القضايا بشيء من التفصيل في الأعمال القلبية، هذا آخر الكلام في باب "الحياء".
أسأل الله أن ينفعنا وإياكم بما سمعنا، ويجعلنا وإياكم هداة مهتدين، وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.
- أخرجه البخاري، كتاب الإيمان، باب أمور الإيمان، برقم (9)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب شعب الإيمان، برقم (35)، واللفظ له.
- أخرجه مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب استحباب طلاقة الوجه عند اللقاء، برقم (2626).
- أخرجه البخاري، كتاب الزكاة، باب اتقوا النار ولو بشق تمرة والقليل من الصدقة، برقم (1417)، ومسلم، كتاب الزكاة، باب الحث على الصدقة ولو بشق تمرة، أو كلمة طيبة وأنها حجاب من النار، برقم (1016).
- انظر: تفسير ابن كثير (8/ 462).
- أخرجه مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب فضل الإحسان إلى البنات، برقم (2630).
- أخرجه أبوداود، كتاب الجنائز، باب في التلقين، برقم (3116)، وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم (6479).
- أخرجه البخاري، كتاب الأدب، باب من لم يواجه الناس بالعتاب، برقم (6102)، ومسلم، كتاب الفضائل، باب كثرة حيائه ﷺ، برقم (2320).