- قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ}
- قوله تعالى: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا}
- قوله تعالى: {وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ...}
- قوله تعالى: {فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا}
- لا تكن مثل فلان كان يقوم الليل فترك
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فهذا باب "المحافظة على ما اعتاده من الخير"، أورد المصنف -رحمه الله- في صدر هذا الباب آيتين، أو ثلاث، الأولى قال الله -تبارك وتعالى: إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ [الرعد:11].
ومناسبة هذه الآية للباب: هي أن العبد إذا كان على لون من الطاعة والاستقامة والعبادة ثم بعد ذلك تحول فإن ذلك مؤذن بتحول أحواله، فقد يتحول من الغنى إلى الفقر، أو من العافية إلى المرض، وعلى مستوى الأمة تنزل بها البلايا والكوارث والمصائب العامة، ويبتليهم الله بما يبتليهم به من نقص الأموال والأنفس، بالأوبئة ونحو ذلك، والثمرات بما يحصل من الآفات التي تفتك بالزروع والثمار، كل هذا يحصل إذا غيرت الأمة من حال إلى حال، وهكذا على مستوى الأفراد، لا يغير ما بقوم من نعمته وعافيته وعطائه إلى حال أخرى من الضر، والفقر والمسغبة حتى يغيروا ما بأنفسهم، يكون التغيير منهم أولًا، إذا تحولوا من طاعته إلى معصيته حول الله عنهم عافيته، فإذا أعطاهم كان ذلك استدراجاً، إذا رأيت الله يعطي العبد وهو على حال سيئة من العمل فإن ذلك يكون استدراجاً له، كما قال الله : وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ [الأعراف:183]، [القلم:45]، فهذا هو معنى الآية، وقد نبهت في بعض المناسبات على معنى آخر يستعملها كثير من الناس به، وليس هو المعنى الذي يذكره السلف فمن بعدهم، المعنى الذي يُذكر هو الذي ذكرته آنفاً، المعنى الآخر الذي يُورَد ويُستشهد بهذه الآية عليه هو أن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم، يقول: ابدأ التغيير بنفسك بإصلاحها فيغير الله حالك وعملك ونحو ذلك، يحتجون بها، يقول إنسان: ربي يهديني، فيقولون له:إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ غيِّر ما في نفسك ويصلح الله حالك وعملك مثلاً، وهكذا، المعنى الذي يذكره المفسرون هو أن الله لن يحول عنهم نعمته وعافيته حتى يكون التغيير منهم في العمل إلى الأسوأ، ولكن إذا قيل: إن الأمة لا يغير الله حالها من الضعف والهوان والمسكنة والمذلة وتسلط الأعداء حتى يغيروا ما بأنفسهم من العمل، فيتحولوا إلى طاعته فهذا صحيح، إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ ومعنى هذا أن الإنسان إذا كان على لون من الطاعة ينبغي أن يحرص عليها، وأن يواظب عليها ولا يترك؛ لئلا يغير الله حاله.
وقال تعالى: وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا [النحل:92] المرأة حينما تغزل وتحكم الغزل "من بعد قوة"، ثم بعد ذلك تفتله وتنقضه بعد إحكامه، ثم ترجع من جديد تغزل فهذا فعل حمقاء، ليس ذلك من فعل العقلاء، فإذا كان الإنسان على لون من التربية والاستقامة والالتزام بشرائع الإسلام فلا ينبغي أن يحصل له حَوْر بعد الكَوْر، بعدما استقام سيره نقض عمله، وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ تجد الإنسان أحياناً يربي أولاده على طاعة الله، وعلى الاستقامة، ويتزوج امرأة صالحة، وتستقيم الأسرة، وينشأ الأولاد على طاعة الله، ثم يفتح لهم باباً من الفساد، يتغير إما لأنه يقرأ في فلسفات التربية أو غير ذلك، ويقول: لا تضيق، لا تحجر عليهم، دعهم يطلعون على الخير والشر ويذهبون ويرون ولو وقعوا في شيء من المحرمات، دعهم يعرفون حتى لا يحصل عندهم انغلاق، بعضهم يقول هذا، فيأتي لهم بالقنوات السيئة، ويسافر بهم إلى بلاد سيئة، ويفعل أفعالاً من شأنها أن تفتن هؤلاء عن دينهم، ثم بعد ذلك يتغيرون، تتغير الحال، وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا، الدعاة إلى الله -تبارك وتعالى- يدعون إليه، ويصبرون على الأذى، ويعلمون الناس شرائع الإسلام على جادة صحيحة، ولون من الانضباط مع أحكام الشريعة، ثم بعد ذلك تحصل الفضائيات، ويتحول عدد منهم إلى أمثال الفنانين والمغنيين والمهرجين من المشاهير، فيصدر منهم تصرفات غير لائقة، يعني إما بسبب فتنة الشهرة، أو فتنة المال أو غير ذلك، فتبدأ الفتاوى الرخوة، بعدما كان يقول كذا ويقول كذا، ورُبي المجتمع على أمور جادة، صار الآن يقول كلامًا آخر، وصار الناس يتشككون: كنا قبل عشر سنوات على صواب والآن انحرفنا وصرنا على خطأ، أو كنا في الأول مضيِّقين ومحجِّرين على الناس، ونقول: لا، ما يجوز، وحرام، والآن عرفنا الحق؟، طيب بعد عشر سنوات قادمة كيف سنكون؟.
إذن وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا، رُبي الناس على تربية جادة يتلقون من علماء ربانيين، ثم بعد ذلك نأتي وننقض هذا كله على قاعدة: "لا حرج"، فهذا لا يصح، هذا التحول والانحراف، وطلب رضا الناس والإعجاب من قبل الآخرين من هؤلاء الذين في القنوات، أو من غير هؤلاء الذين يشاهدون من هؤلاء الملايين لا يجوز أن يكون مسوغاً لأنْ نغير ونبدل مبادئنا ونفتي للناس بالتسهيل والرخص، بحجة أننا نبقى مع المحكمات لأن القطار سيغادر، هذا غير صحيح، أحكام الله ينبغي للإنسان أن يقول فيها ما يدين الله به، ما يترجح لديه من أدلة الكتاب والسنة.
على كل حال يقول: والأنكاث جمع نِكث وهو الغزل المنقوض.
وقال تعالى: وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ [الحديد:16] طال عليهم الأمد بعد نزول الكتاب، الناس في أول أمرهم يكون عندهم إقبال شديد، الإنسان في أول توبته، في أول استقامته، في أول مبدئه في العمل يكون عنده اندفاع، ويشعر بلذة في العبادة وبخشوع، ولربما يبكي ويتأثر ويقوم الليل، وتمر عليه سنوات، وبعد ذلك يحصل له -إلا من رحم الله- شيء من الهمود والجمود، وقسوة القلب، وجفاف العين، ما الذي حصل؟
طال الأمد فقست القلوب، ولهذا يحتاج العبد دائماً إلى أن يستمر على رقة القلب ولينه، وإقباله على ربه -تبارك وتعالى- إقبالاً صحيحاً بإخبات وخشوع؛ لأن الله يعيب هذا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ فسبب قسوة القلب طول الأمد، ذهبت الاندفاعة التي في البدايات، ثم بعد ذلك حصل التراخي، وهذه أمور يحتاج الإنسان أن يقف عندها.
وهكذا في قوله تعالى: فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا [الحديد:27]، هذا في الرهبانية، قال: وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا [الحديد:27] يعني النصارىمَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ [الحديد:27] يعني أنهم ابتدعوا هذا من أجل التقرب إلى الله -تبارك وتعالى، الرهبانية كانت عند النصارى ولا تجوز في هذه الأمة، فكانوا يتعبدون بلون من الشدة وتعذيب النفس، والانقطاع عن الحياة الدنيا ومظاهرها، الراهب لا يتزوج طيلة حياته، ويترك أكل الطيبات، ويعيش منعزلًا عن الناس في دير أو في مكان أو في معبد في البرية لا يرى الناس ولا يرونه، ينقطع للعبادة، كل ذلك فعلوه ابتغاء رضا الله -تبارك وتعالى، لكن الله يقول: فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا، كانت بداية هذه القضية طلب ما عند الله، ثم تحولت إلى شيء آخر، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ [التوبة:34] صاروا إلى هذه المثابة بعدما كانوا يريدون ما عند الله ، وصارت الأديرة كما تعلمون أقبية، الأديرة فيها أطفال موتى صغار، يولد فيقتل مباشرة ثم يرمى في القبو حتى يتحلل وينتهي، من الراهبات، فصارت تلك الأماكن في كثير من الأحيان مكاناً للفجور والفواحش، بعدما كانوا لا يتزوجون، ولا زالت فضائحهم إلى اليوم تسمعونها وتقرءون عنها، فضائح الرهبان والراهبات والفجور الذي هم فيه، يحرمون على أنفسهم النكاح، ولكنهم يفعلون -أعزكم الله- السفاح، فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا.
وذكر بعد ذلك:
لاحظوا: قيام الليل ليس بواجب، فالنبي ﷺ ينهى عبد الله أن يكون مثل فلان، إذن فعلُ فلان سيئ لا يُتشبه به فيه، كان يقوم الليل، فترك قيام الليل، فهذا على سبيل الذم، وهذا يدعو الإنسان إلى أن يراجع نفسه، ما الأشياء التي كان يعملها وتركها، كنت تصلي الضحى وتركتها، تصلي الوتر وتركته، كنت تقوم الليل وتركته، كنت تصوم الإثنين والخميس أو محرم أو شعبان ثم تركته؟، فهذا فعل لا يليق بالمؤمن، وينطبق عليه مثل ما ذكر النبي ﷺ "لا تكن مثل فلان"، يعني ضع مكانها العمل الذي تركته، كان يصوم كذا وكذا فترك الصيام، كان يصلي الضحى فترك صلاة الضحى، كان يحافظ على أذكار الصباح والمساء فترك أذكار الصباح والمساء، فأسأل الله أن يثبتنا وإياكم على الحق، وأن يجعل عملنا دِيمة، فإن أحب العمل إلى الله أدومه وإن قلّ، وكان ﷺ إذا عمل عملاً أثبته، يداوم عليه، والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.
- أخرجه البخاري، كتاب التهجد، باب ما يكره من ترك قيام الليل لمن كان يقومه، برقم (1152)، ومسلم، كتاب الصيام، باب النهي عن صوم الدهر لمن تضرر به أو فوّت به حقا أو لم يفطر العيدين والتشريق، وبيان تفضيل صوم يوم، وإفطار يوم، برقم (1159).