الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فمما جاء عن السلف في باب "استحباب طيب الكلام وطلاقة الوجه عند اللقاء" ما جاء عن أم الدرداء قالت: "كان أبو الدرداء لا يحدث بحديث إلا تبسم"، حتى قالت له: "أخاف أن يُحمِّقك الناس"[1].
وأيضاً يقول حماد: "ما رأيت رجلاً قط أشد تبسماً في وجوه الرجال من أيوب السختياني"[2]، وهو من أئمة التابعين.
ومكث عبد الله بن أبي نجيح ثلاثين سنة لا يتكلم بكلمة يؤذي بها جليسه[3]، فالإنسان لابد أن يزن كلامه قبل أن يصدر منه، ويكون عقله قائداً لكلامه، للسانه، فيكون لسانه مخطوماً بخطام الشرع، أما الذين يرسلون الكلام إرسالاً، وتقودهم ألسنتهم فإنها تقودهم إلى حتوفهم.
يقول محمد بن النعمان بن عبد السلام: "لم أر أعبد من يحيى بن حماد، وأظنه لم يضحك"[4]، لكن النبي ﷺ كان يضحك حتى تبدو نواجذهﷺ[5]، ولا شك أن هديه أكمل الهدي، ولهذا يعلق الذهبي تعليقاً جيداً من أجله أوردت هذا الأثر، وإلا فالعادة أني أجاوز ما كان فيه شيء من المخالفة، يقول الذهبي -رحمه الله: "الضحك اليسير، والتبسم أفضل، وعدم ذلك من مشايخ العلم على قسمين:
الأول: يكون فاضلاً لمن تركه أدباً وخوفاً من الله، وحزناً على نفسه المسكينة"[6].
والنبي ﷺ أكمل الأمة خوفاً من الله، لكن من الناس من لا يجتمع ذلك في قلبه لتقاصره عن تلك المرتبة -مرتبة النبي ﷺ، فإذا غلب عليه الخوف لم يظهر منه ذلك، وهذا موجود في أحوال بعض السلف، وفيما نُقل بتراجم بعض أهل العلم فمن بعدهم، وإلا فإن النبي ﷺ كانت حاله أكمل مثلما يقال أيضاً في الأمور الأخرى، فالنبي ﷺ دمعت عينه لما كان ابنه إبراهيم في حال الاحتضار[7]، وأخبر أنها رحمة، وأن الله لا يؤاخذ بدمع العين، ولا بحزن القلب، فهذا كمال، لكن الفضيل بن عياض لما مات ابنه عليٌّ ضحك، فلما قيل له: كيف تضحك وقد مات ابنك؟ قال: أردت أن أريه أني راضٍ عنه، أي عن الله ، فيعلق على هذا شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- يقول: "إن حال النبي ﷺ أكمل، دمعت عينه، وحزن قلبه، الفضيل لم يستطع أن يجمع هذا في قلبه، فضحك، وإلا فهذا ليس بمقام للضحك، وهكذا يقال في صور وأمور أخرى.
يقول الذهبي -رحمه الله: "الثاني: مذموم لمن فعله حمقاً، وكبراً، وتصنعاً، كما أن من أكثر الضحك استُخف به، ولا ريب أن الضحك في الشباب أخف منه، وأعذر منه في الشيوخ "[8].
لكن الضحك المقصود أن يكون ذلك غير غالب على الإنسان من جهة، ولا يكون برفع الأصوات والقهقهة، فإن ذلك لا يليق من أهل المروءات، لكن النبي ﷺ كان يضحك حتى تظهر نواجذه ﷺ، يقول الذهبي: "وأما التبسم وطلاقة الوجه فأرفع من ذلك كله، قال النبي ﷺ: تبسمك في وجه أخيك صدقة[9]، وقال جرير -يعني البجلي : ما رآني رسول الله ﷺ إلا تبسم، يقول الذهبي: فهذا هو خلق الإسلام، فأعلى المقامات من كان بكّاءً بالليل بساماً بالنهار، هذه أعلى المقامات، وكثير من الناس لا يستطيع هذا إذا غلب عليه الخوف من الله، فإنه يغلب عليه الوجوم والحزن، يقول: وقال ﷺ: لن تسعوا الناس بأموالكم، فليسعْهم منكم بسط الوجه[10]، ومضى الكلام على هذا في الليلة الماضية.
يقول الذهبي: بقي هنا شيء: ينبغي لمن كان ضحوكاً بساماً أن يُقصِّر من ذلك أو أن يقلل من ذلك -يعني من كثر ذلك فيه، ويلوم نفسه حتى لا يُمَجّ، وينبغي لمن كان عبوساً منقبضاً أن يتبسم ويحسن خلقه، ويمقت نفسه على رداءة خلقه، يقول: وكل انحراف عن الاعتدال فمذموم، ولابدّ للنفس من مجاهدة وتأديب.
هذا صحيح.
ونُقل عن الميموني صاحب الإمام أحمد -رحمه الله- قوله: "كثيراً ما كنت أسأل أبا عبد الله عن الشيء، فيقول: لبيك، لبيك"[11]، يعني يقول له: يا أحمد، فيقول: لبيك، لبيك، بل نقل عن بعض السلف أنه لما دُعي، قال: "لبيك، فقال له المخاطب: تقول لي: لبيك؟ قال: إني أقولها لخادمي"، أخلاق رفيعة.
وكان في مجلس ابن الجوزي رجل يحسّن كلامه، ويزهّره له، يعني إذا جلس مع ابن الجوزي يتلطف بالكلام معه، فسكت يوماً، فالتفت إليه أبو الفرج ابن الجوزي وقال: "هارون -هذا الرجل ليس اسمه هارون- لفظك مُعينٌ لموسى نطقي، فأرسله معي ردءاً"، هذا يسميه أهل المجاز استعارة، يقول: هارون، سماه هارون، يعني موسى ﷺ دعا ربه قال: وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ [القصص:34]، فهنا يقول: هارون للرجل هذا الذي يلطف المجلس معه، يقول: "هارون لفظك مُعينٌ لموسى نطقي، يعني جعل نطقه بمنزله موسى، استعارة، يعني لأجل أني أنطلق في الكلام وأنبسط في المجلس، هارون لفظك معين لموسى نطقي فأرسله معي ردءاً يعني معيناً وعضداً، وهكذا إذا كان الإنسان أحياناً لا يكون فيه ذلك الانبساط، أو أنه لربما كانت أعماله وأعباؤه وطبيعة ما يلاقيه تورثه كثيراً من الهم ويثقله ذلك فإنه بحاجة إلى من يسعفه بشيء من بسط النفس، فمثل هذا يعين على كثير مما نحن بصدده، بمعنى أن من كان كثير الضحك كثير الانبساط هذا يحتاج إلى ناس جادين يجلس معهم، من كان فيه انقباض أو يعاني فهو بحاجة إلى من يبسط عليه المجلس، يوسع بابتسامته بمداعبته بملاطفته، بكذا فتعتدل النفس، والإنسان ينبغي أن يكون فقيهاً في التعامل مع الناس؛ ولهذا تجدون رؤساء دول كبيرة جدًّا عندهم أعباء، ولربما يدير أمماً ومع ذلك تجده يخرج بالمنشار في الغابة، أو في مزرعته يقطع الأشجار ويصيد الأسماك؛ لأنه لابدّ من هذا، وإلا فسينُهك، ونحن اليوم لربما الإنسان كان بصدد أشياء يسيرة دون ذلك في قضايا تتعلق بالمجتمع من دعوة أو إصلاح ذات بين، أو إجابة على أسئلتهم، أو تعليمهم، أو غير ذلك، فلربما يثقله ذلك كثيراً فيُنهك فيشيب قبل أوانه، فيحتاج الإنسان إلى شيء من الفقه في التعامل مع الناس، وعمر بن عبد العزيز -رحمه الله- لما جاءه ابنه، ووجده نائماً في القيلولة، قال: "يا أبت، من للمظالم؟ كيف تنام؟، والله ما أبالي لو أوقدت بي وبك القدور، فأخبره وبين له، وقال له: إن نفسي مطيتي"، وبين له أنه لو بقي على سبيل الدوام والاستمرار في العمل المنهك هذا عما قريب سينقطع، فالآن الجمل يضرب به المثل في الصبر والقوة والتحمل، إذا تابع السير، استمر فيه مدة طويلة ينقطع من الكلال، والله المستعان، وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.
- سير أعلام النبلاء (2/ 351).
- الطبقات الكبرى، لابن سعد (7/ 185)، وسير أعلام النبلاء (6/ 17).
- التاريخ الأوسط، للبخاري (2/ 33)، وسير أعلام النبلاء (6/ 125).
- سير أعلام النبلاء (10/ 140).
- أخرجه البخاري، كتاب الرقائق، باب يقبض الله الأرض يوم القيامة، برقم (6520)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب آخر أهل النار خروجًا، برقم (186).
- سير أعلام النبلاء (10/ 140).
- أخرجه البخاري، كتاب الجنائز، باب قول النبي ﷺ: إنا بك لمحزونون، برقم (1303)، ومسلم، كتاب الفضائل، باب رحمته ﷺ الصبيان والعيال وتواضعه وفضل ذلك، برقم (2315).
- سير أعلام النبلاء (10/ 140).
- أخرجه الترمذي، أبواب البر والصلة عن رسول الله ﷺ، باب ما جاء في صنائع المعروف، برقم (1956)، وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم (2908).
- أخرجه الحاكم في المستدرك، برقم (427)، وبرقم (428)، وقال: "هذا حديث صحيح معناه يقرب من الأول غير أنهما لم يخرجاه"، وضعفه الألباني في السلسلة الضعيفة، برقم (634).
- سير أعلام النبلاء (11/ 218).