الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
ففي باب إكرام الضيف صدّر المصنف -رحمه الله- هذا الباب بقوله -تبارك وتعالى: هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ[الذاريات: 24-27].
هذه الآيات تكلمتُ على ما تضمنته من الفوائد في مناسبة من المناسبات، في شهر رمضان، ولا بأس أن أذكر هنا ما يتصل بإكرام الضيف، مما يستخرج من هذه الآية.
فقوله -تبارك وتعالى: هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ [الذاريات:24]، هذا فيه دلالة على كرامة إبراهيم على ربه، حيث قص الله خبره مع أضيافه على أشرف رسول، في أعظم كتاب، وأجل كتاب، وهو القرآن، خلد ذكره في هذا الكتاب العظيم، وذكر خبره مع أضيافه، وبأسلوب التشويق لتتطلع النفس إلى ما وراء هذا الاستفهام، هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ، هل علمت ما حصل لكذا؟ فتنجذب النفس لسماع الخبر.
هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ أي: ضيوف إبراهيم، فالضيف يطلق على الواحد والمثنى والجمع؛ لأنه جنس، أو مصدر، ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ، أي: ضيوف إبراهيم، ووصفهم هنا بأنهم: مكرمون، وإذا كان أضيافه كرامًا، فهذا يدل على أنه من الكرام.
وهؤلاء الضيوف من الملائكة، فأضيافه ملائكة، ولم يكن يشعر بذلك، ومَن مِن الناس يكون أضيافه من الملائكة؟
فهؤلاء الرسل لهم منزلة عند الله -تبارك وتعالى- لا يبلغها أحد من الناس.
قال: إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا [الذاريات:25]، هؤلاء الضيوف لم يقف معهم عند الباب، ويسمع منهم، ثم ينصرفوا، وإنما دخلوا بيته، وهذا اللائق بالضيف أن يدخل دارك، وأن يستأنس بالجلوس، أما الذي يستقبل الناس عند الباب، كيف الحال، الحمد لله، يريد أن يسمع ماذا يريدون، فمثل هذا خلاف الكرم.
وبعض الناس ليس له مجلس أصلًا في بيته، فلما سئل أحدهم عن هذا، قال: يكفي في المسجد، ما حاجتي بالمجلس؟ يكفي في المسجد أسلم عليهم، أسلم على الناس في المسجد، يكفي، ما يعرف أن يقول: تفضل، ولله في خلقه شئون.
إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ [الذاريات:25]، فإبراهيم كانت تحيته أبلغ وأكرم من تحية الملائكة، حتى في التحية، فَقَالُوا سَلَامًا، أي: سلَّمنا سلامًا، أما هو فقال: سَلَامٌ، أي: سلام دائم عليكم، الجملة الاسمية تدل على الثبوت، سلام ثابت، سلام دائم عليكم، فرد بأحسن من تحيتهم.
واستقبال الضيف بتحية لائقة، والتحفِّي به هذا من الكرم، ومما يطرد عنه الوحشة، ويحصل معه الأمان؛ لأن الإنسان لا يزال مستوحشًا، ولهذا قال الله : لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا [النور:27].
فالطارق مستوحش، لا يدري ما الذي يطرأ عليه، بماذا يرد عليه؟ ماذا يقال له؟ من سيخرج عليه؟ بماذا سيستقبل؟ فإذا أذنوا له استأنس بذلك، كيف بالسلام؟
قَالَ سَلَامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ، وهذا من كرمه، أنه لم يجابههم بما يكرهون، ما قال: أنتم قوم منكرون، توجيه الخطاب بهذه الطريقة فيه شيء من الشدة، ولربما قد لا يلائم الضيف، وتستوحش منه المشاعر، ما تواجه الإنسان وتقول: أنا ما أعرفك، ممكن أن تقول: ذكرني بالاسم، الأخ معروف لكن أنا غير متذكر، عبارة بدل عبارة.
فقال: قَوْمٌ مُنْكَرُونَ ما قال: أنتم قوم منكرون، كان يراعي مشاعرهم، يتحفّى، يتلطف بعبارات، حتى لا ينقبض الضيف، وهذا من الأدب في الخطاب، وجاء في القرآن كثيرًا، وذكرت هذا في مناسبات في التعليق على آيات في القرآن.
الله قال عن إبراهيم ﷺ حينما ذكر صفة ربه -تبارك وتعالى- في الإطعام والإسقاء، قال: وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ [الشعراء:79-81].
فنسب المرض إلى نفسه، مع أن المرض من الله، ونسب الشفاء إلى الله فَهُوَ يَشْفِينِ.
والخضر مع موسى نسب العيب إلى نفسه، أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا [الكهف:79].
وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ... [الكهف:82].
لم يقل: فأردت أن يبلغا أشدهما، ففيه أدب في الخطاب.
فَرَاغَ [الذاريات:26] الفاء تدل على التعقيب المباشر، ما جلس وترك الضيف إلى أنصاف الليل، ولربما يكون متعبًا، أو جائعًا، لا، بسرعة، فالفاء للتعقيب المباشر، بسرعة ذهب لإعداد القِرى للضيف.
فَرَاغَوالروغان يدل على سرعة وخفاء، ما جلس يتباطأ، أو كما يقول ابن القيم: يأتي بالدنانير، أو الدراهم يعدها قدام الضيف هذا للذبيحة، وهذا للفاكهة، وهذا للعصير، وهذا للحبحب، وهذا لكذا، فيحرج الضيف، إنما ذهب بسرعة وخفاء.
ولا قال: انتظر أنا أروح لسوق الغنم أشتري ذبيحة، وأروح أبحث عن طباخ، أو مطعم في هذه الساعة يطبخها، لا، ذهب بسرعة وخفاء، إلى أين؟، إلى أهله.
فهذا من كرمه، الإسراع في الإكرام، إضافة إلى أن القِرى موفور، موجود في بيته، لا يحتاج إلى طلبه في مكان آخر، معتاد على الضيفان، قد هيأ لهم ما يحتاجون إليه.
فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ [لذاريات:26]، والفاء تدل على التعقيب المباشر، بعجل، والعجل هو أطيب اللحم، ما راح وأتى بدجاجة.
وهذا يدل على أن إكرام الضيف ما لم يكن رياء وسمعة ومفاخرة ومباهاة أنه ليس فيه إسراف، ولو كان كثيرًا، إذا كان يستفاد من الطعام فيما بعد يوزع على الفقراء، واحد نزل عندك ضيفًا، اذبح له ذبيحة، ما المانع من هذا؟
حتى لو أنه جلس على صحن، ما المانع؟ هذا إكرام، لكن بشرط أن يكون بلا رياء، ولا مفاخرة، ولا يُتلَف هذا الطعام.
فَجَاءَ بِعِجْلٍ، وما بحث عن الهزيلة، قال: هذه على الأقل أحسن من السمينة، بل جاء بعجل سمين، نفس جزلة.
الضيف قد يعجبه الظهر، قد يعجبه الذراع، قد يعجبه شيء آخر من اللحم، يضعه قدامه كاملا ويختار، فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ [الذاريات:27]، وهذا أيضًا يدل على كرمه، ما احتاج أن ينقلهم من مكان إلى مكان، قوموا وغسِّلوا أيديكم هنا، هذه العبارات الصحراوية، وهم أيديهم ما فيها حتى يقول لهم هذا الخطاب، على الأقل أهلًا وسهلًا ومرحبًا، يا هلا، ويا مرحبًا، الذي يحب يغسل هذا المكان للغسيل، أو تفضلوا الله يحييكم.
قربه وضعه بين أيديهم ما يريد أن يُعنيّهم، قربه إليهم، وما قال: كلوا، قَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ [الذاريات:27] هذه أخلاق الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام-.
فكلما ابتعدنا عن أخلاقهم وتربيتهم كلما جفت النفوس، وجفت الألسن والأذواق، وأصبحت المخاطبات فيها شيء من الجفاء، حتى في مقامات الإكرام، أسلوب محرج أحيانًا.
هذه الآية التي ذكرها، والآيات على كل حال في الذاريات معروفة، والله أعلم.
وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.