الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فمما جاء عن السلف في باب إكرام الضيف:
ما جاء عن أحدهم قال: نزلت على أبي هريرة بالمدينة ستة أشهر، فلم أرَ من أصحاب رسول الله ﷺ رجلاً أشد تشميراً، ولا أقوم على ضيف من أبي هريرة[1].
أشد تشميرًا يعني في خدمة الضيف، والقيام على شئونه.
ولما قدم أبو أيوب الأنصاري على ابن عباس حينما كان أميرًا على البصرة لعليٍّ بالغ ابن عباس في إكرام أبي أيوب الأنصاري وقال: لأجزينك على إنزالك النبي عندك ﷺ.
لأن النبي ﷺ لما قدم المدينة نزل على أبي أيوب الأنصاري، قبل بناء المسجد، فوصله ابن عباس بكل ما في المنزل، فبلغ ذلك أربعين ألفاً، يعني: من الدنانير، وهذا مبلغ يعتبر كبيرًا جدًّا، وقال له: كم عليك؟ يعني من الدين، قال: عشرون ألفًا، فأعطاه أربعين ألفاً، وعشرين مملوكاً، ومتاع البيت[2].
وقدم سليمان بن يسار دمشق، يقول عبد الرحمن بن يزيد: فدعاه أبي إلى الحمام، الحمامات التي كانت في بلاد الشام معروفة، ولها بقايا أظن إلى اليوم، أماكن يسخن فيها الماء، يغتسل الناس فيها، يقول: وصنع له طعاماً، وكان أبوه يسار فارسياً، يقول: وبلغنا أن ابن عباس -ا- كان يجلّ طاووسًا يعني: ابن كيسان، ويأذن له مع الخواص، طاووس مولى من الموالي، ويأذن له مع الخواص، ولما قدم عكرمة اليمن أنزله طاووس عنده، عكرمة مولى لابن عباس، أنزله طاووس عنده، وأعطاه نجيباً[3].
وهذا عمر بن عبد العزيز -رحمه الله- كما قال رجاء بن حيوة لابنه -لابن عمر بن عبد العزيز- الذي هو عبد العزيز بن عمر، رجاء بن حيوة يحدث عبد العزيز عن أبيه عن عمر بن عبد العزيز، يقول: ما أكمل مروءة أبيك! كامل المروءة، وذكر أنه سمر عنده ليلة، فعشِي السراج، يعني: ضعف أو انطفأ، وإلى جانبه وصيف نام، أي: مملوك، ونام، فقال رجاء بن حيوة: ألا أنبهه، أوقظ الغلام، من أجل أن يوقد السراج، فقال: لا، دعه، قلت: أنا أقوم، قال: لا، ليس من مروءة الرجل استخدام ضيفه، إذا جاء الضيف ليس من المروءة أن يخدمك في دارك، يقوم هو الذي يصب.
فقام إلى بطّة الزيت، وأصلح السراج، ثم رجع، فقال: قمت وأنا عمر بن عبد العزيز، ورجعت وأنا عمر بن عبد العزيز[4].
هذا الخليفة يقوم، ويعبئ الزيت، ويوقد السراج، ويرفق بالخادم، لا يزعجه، يتركه يرتاح وينام، ضعيف مسكين.
ويقول أبو جمرة: كنت أقعد مع ابن عباس، وكان يجلسني معه على سريره، فقال: أقم عندي حتى أجعل لك سهماً من مالي، فأقمت معه شهرين[5]، هذا حينما كان ابن عباس أميرًا على البصرة.
وجاء عن الحسن -رحمه الله- كما يقول عبد الله بن عون: والله لقد أتيت منزله في يوم حار، وليس هو في منزله، فنمت على سريره، فلقد انتبهت وإنه ليُروِّحني[6]، يهف عليه، هذا إمام كبير.
ويقول ابن عون: قِلت عند الحسن -يعني: نام في القيلولة- ومحمد -يعني: ابن سيرين، فكلاهما لم يزالا قائمين على أرجلهما، حتى فُرش لي[7].
ويقول عبد الرحمن بن يزيد بن جابر: كنت أرتدف خلف أبي في أيام الوليد، يعني: ابن عبد الملك، فقدم علينا سليمان بن يسار، فدعاه أبي إلى الحمام، وصنع له طعاماً[8].
ويقول غسان بن سليمان: كنا نختلف إلى إبراهيم بن طهمان، إلى القرية، فكان لا يرضى منا حتى يطعمنا، وكان شيخاً واسع القلب[9]، يعني: حليمًا صبورًا، يتحمل الضيوف، ويتحمل الناس.
ويقول يحيى بن زكريا بن حَيَّويه: قدّم إلينا محمد بن طريف البجلي رطباً، فسألنا أن نأكل، فأبيت عليه، قال: سمعت حفص بن غياث يقول: من لم يأكل طعامنا لم نحدثه[10].
يعني: هذا إمام في السنة يأتون إليه من أجل أن يسمعوا منه الحديث، ويأخذوا عنه العلم، فنقل عن حفص بن غياث عن شيخه، يعني: قال من لم يأكل من طعامنا لم نحدثه، وهذا من ملاطفة الضيف.
وجاء عن شقيق البلخي قال: ليس شيء أحب إليّ من الضيف؛ لأن رزقه على الله، وأجره لي[11].
وقال محمد بن عباد: إن المأمون قال لي: بلغني أنه لا يقدم أحد البصرة إلا أضفتَه، فقلت: منع الجود سوء ظن بالمعبود[12].
وهذا زهير بن صالح بن أحمد بن حنبل، يقول: قدم علينا من خرسان ابن خالة جدي، فنزل على أبي، يعني: صالح بن أحمد، وصالح كان فقيراً، فنزل على أبي، فدخلت معه إلى جدي، فجاءت الجارية بطبق فيه طعام، وعليه خبز، وبقل وملح، وبِغُضَارة، فوضعتها بين أيدينا، فيها مَصْليّة فيها لحم، فأكل معنا، وسأل ابن خالته عمن بقي من أهله بخرسان، في خلال الأكل يسأل، فربما استعجم عليه، فيكلمه جدي بالفارسية، الجد من؟ هو الإمام أحمد، كان في العراق، فيعرف بعض الأشياء، ويضع اللحم بين يديه وبين يدي، يعني: يقطع لهم لحمًا، ثم أخذ طبقاً إلى جنبه، فوضع فيه تمرًا وجوزًا، وجعل يأكل، ويناول الرجل[13]، هذا الإمام أحمد -رحمه الله.
وهذا أحمد بن محمد البغدادي، قال لضيف: الضيافة ثلاثة أيام، وهذا جاء في الحديث، والنبي ﷺ قال: وما زاد فهو صدقة[14]، يعني: على الضيف، لكنه لا يجب.
هذا يقول للضيف: الضيافة ثلاث، فما زاد فهو صدقة عليّ[15]، ما هو عليك أنت، يقول: أنت تتصدق عليّ إن جلست أكثر من ثلاثة أيام، أنت صاحب فضل.
فهذا من الكرم، ويحتاج الإنسان إلى مثل هذه المعاني ليوقظ بها هذه المروءات في نفسه، وإلا فإن الانهماك وراء هذه الحياة ومتطلباتها، وما لها من تأثير كبير في مثل هذا العصر، حيث غلبت النزعة المادية على كثير من الناس، فلربما انمحى كثير من هذه الخصال من نفوس كثير من الناس.
ولربما كان ذلك عيبًا عند بعضهم يعيبون الرجل لربما لكرمه، وأنه متلافٌ لماله مضيع له، وأن الناس يكفي أن يقابلهم في مكان عام، أو في المسجد، أو نحو ذلك، ثم ينتهي كل شيء، وهذا غير صحيح.
فالكرم من الإيمان، وهو من الخصال الكريمة، وذلك مما دعا إليه الشرع كما سمعتم في النصوص قبل ذلك.
والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.
- سير أعلام النبلاء (2/ 593).
- أخرجه الحاكم في المستدرك على الصحيحين، كتاب معرفة الصحابة -، ذكر مناقب أبي أيوب الأنصاري (3/ 520)، رقم: (5936)، والبيهقي في شعب الإيمان (13/ 311)، رقم: (10381).
- سير أعلام النبلاء (5/ 44).
- المصدر السابق (5/ 136).
- المصدر السابق (5/ 243).
- المصدر السابق (6/ 366).
- المصدر السابق (6/ 375).
- المصدر السابق (7/ 177).
- المصدر السابق (7/ 382).
- المصدر السابق (9/ 27).
- المصدر السابق (9/ 315).
- المصدر السابق (10/ 190).
- المصدر السابق (11/ 217-218).
- أخرجه البخاري، كتاب الأدب، باب من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذِ جاره (8/ 11)، رقم: (6019)، ومسلم، كتاب الحدود، باب الضيافة ونحوها (3/ 1352)، رقم: (48).
- سير أعلام النبلاء (13/ 495).