الخميس 24 / جمادى الآخرة / 1446 - 26 / ديسمبر 2024
قال تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبيلِ رَبِّكَ بالحِكْمَةِ..}
تاريخ النشر: ١٨ / محرّم / ١٤٣١
التحميل: 1329
مرات الإستماع: 1705

مقدمة باب الوعظ والاقتصاد فيه

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فهذا باب "الوعظ والاقتصاد فيه"، والوعظ هو الأمر أو النهي المقرون بما يدعو للفعل أو الترك، كالترغيب والترهيب، وقد يطلق على معنى أعم من ذلك.

والاقتصاد يعني الاعتدال، بمعنى أنه لا يُكثر من ذلك جدًّا كثرة تبعث على السآمة، ولا يكون ذلك نادراً فيحصل للناس شيء من الجفاف، الناس بحاجة إلى التذكير، والله -تبارك وتعالى- يقول: فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ [الذاريات:55] فالذكرى بمنزلة الماء الذي يسقي الشجر، ويُفرَّق بين مجالس العلم، وبين الوعظ، فمجالس العلم لا بأس أن تكون متتابعة في اليوم الواحد، أو في الأيام المتوالية لا إشكال في هذا، إنما الكلام في الوعظ الذي يقصد به ترقيق القلوب، وبعث النفوس على الامتثال والعمل، هذا هو المراد، فإذا كثر الوعظ على النفوس بعد كل صلاة يقوم شخص ويلقي موعظة، أو كل يوم: عباد الله اتقوا الله، ويتحدث عن الجنة والنار، وكذا، النفوس مهما كانت تُقبل على الخير، وتحب الخير، إلا أنها قد تمل وتسأم من ذلك، فكون الموعظة تقع على النفس حيث تطلبها النفوس، وتشتاق إليها فإن ذلك يكون أعظم وقعاً، بخلاف مجالس التعليم، فإنه يقصد بها رفع الجهل عن المكلفين، وبيان الأحكام والآداب، وشرائع الإسلام، فهذا يُحتاج إليه دائماً.  

قوله تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ}

ثم ذكر قول الله -تبارك وتعالى: ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ [النحل:125]، هذا أمر بالدعوة، وهذا الأمر من الشارع يدل على قدر المشروعية الدائر بين الوجوب والاستحباب، "ادع" فتارة الدعوة تكون واجبة، وتارة تكون مستحبة.

والدعوة تكون إلى سبيل المعبود ، فهو سبيل الله فلا يدعو الإنسان إلى نفسه أو يدعو إلى حظوظه أو ما أشبه ذلك، وإنما يدعو إلى سبيل ربه، يكون أمره لله، يريد ما عند الله -تبارك وتعالى، لا يريد أن يحصّل لنفسه منزلة ولا محمدة ولا رفعة في قلوب الخلق، ولا تصديراً في مجالسهم ولا رئاسة، وسبيله -تبارك وتعالى- أيضاً هو الطريق الذي خطه ورسمه، بمعنى اتباع السنة، واتباع الشرع لا يدعو إلى محدثات، لا يدعو إلى بدع، لا يدعو إلى ضلالات، فإن ذلك ليس من سبيل الله في شيء، فتضمّن سبيلُه -تبارك وتعالى- أمرين:

  • أن يكون ذلك لله.
  • وأن يكون على ملة رسول الله ﷺ.

ثم قال هنا: بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ، والحكمة بعض السلف يقولون: هي القرآن، وبعضهم يقول: الفقه في الدين، وبعضهم يقول غير ذلك، ولكن ذلك كله صحيح؛ لأن الحكمة لابدّ أن تكون منطلقة ومنوطة ومرتبطة كل الارتباط بالعلم الذي يوزن بميزان صحيح، ويكون عند الإنسان من العقل الراجح ما يجتمع له به البصيرة، بحيث إن الإنسان بحاجة إلى فقه وعلم في دعوته، وهو بحاجة إلى عقل بحيث يتصرف بطريقة صحيحة فيضع الأمور في مواضعها ويوقعها في مواقعها، يتكلم حيث يحسن الكلام، ويكف حيث يحسن الكف، ويتكلم مع كل أحد بما يليق بمثله، وما يناسبه، وما يصلح له، فالكلام مع المجادل غير الكلام مع القابل، والكلام مع المعاند غير الكلام مع الذي يطلب التعليم والموعظة، وله قبول وإذعان.

بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ، "بالحكمة" الباء للمصاحبة، دائماً تكون الدعوة مصاحبة بالحكمة، وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ لمن يحتاج إلى ذلك، لمن يحتاج إلى الوعظ، لكن دائمًا سواء كانت الدعوة مع مجادل مع صاحب شبهة مع من يحتاج إلى وعظ هذا كله لابدّ أن يكون بالحكمة، أما الموعظة فهي لتطرية القلوب، فتوضع حيث دعت الحاجة إليها؛ ولهذا ما جاءت معها الباء، لم يقل: وبالموعظة الحسنة، والله تعالى أعلم.

وقيَّد الموعظة  بالحسنة؛ لأن الموعظة قد تكون قوية وجارحة ومؤلمة أحيانًا، فقد يقوم الإنسان يعظ لكن بطريقة يجرح فيها الموجودين، بأي طريقة من الطرق، يعني بعض الناس مثلًا قد يعظ وأثناء الموعظة أو أثناء الخطبة يوجه الكلام المؤلم لهم، يقول: أنتم إذا كنتم على كذا سيحصل لكم كذا، لا يوجه الكلام يقول: يا إخواني نحن بحاجة إلى ألطاف الله، نحن بحاجة إلى رحمته، من ينصرنا من بأس الله إن جاءنا؟، لا يوجه الكلام لهم بالتثريب واللوم فيؤذي أسماعهم، وينفر قلوبهم، فالموعظة أحياناً تكون فيها خشونة وجفاء فلا يحصل منها المطلوب، وإنما تنفر منها النفوس.

ثم قال: وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [النحل:125]، قال: جَادِلْهُمْ جاء بفعل الأمر ولم يقل: والمجادلة، كما قال: بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ، قال: وَجَادِلْهُمْ فهذا فعل، وذلك أن المجادلة ليست هي الأصل، إنما هي أمر عارض مع من يحتاج إلى ذلك، وهي مثل الدواء، حيث احتيج إليها، وإلا فإنها غالباً حينما ترد في القرآن ترد على سبيل الذم، وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ [غافر:5]، يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ [الأنفال:6]، أكثر المواضع جاءت على سبيل الذم.   

وإذا نظرت إلى أصل هذه المادة "المجادلة" فهي مأخوذة -كما قيل- من الجِدالة، والجِدالة هي الأرض الصلبة، فالجدل يحصل معه حضور النفوس، كل إنسان يريد أن ينتصر لرأيه، ويثبت قوله وحجته ولو بالباطل، وقد يحمل هذا الإنسانَ إلى ارتكاب أمور عظام، وقد ذكر ابن حزم في كتاب "الإحكام" في أواخره: أن رجلاً ممن ينسب إلى العلم أخطأ في آية، فنُبه، فكبر عليه ذلك، وعظم، فأبى وأصر أنه مصيب، فجيء له بالمصحف فأبى، فدخل في بيته وجاء بالمصحف، يقول ابن حزم: والحبر لم يجف -نسأل الله العافية، الحبر لم يجف بمعنى أنه ذهب وغير الكلمة؛ لئلا يثبت عليه خطأ، إلى هذا الحد؟! هذا ضلال مبين، والسبب الذي يحمل عليه هو الجدل، وما ثبتت كثير من الضلالات إذا نظرتم إلى رءوس الفرق الكبار الأربع التي ظهرت في أواخر عهد الصحابة، وبدايات عهد التابعين كانت قد توطدت أركانها وثبتت بطريق الجدل، درسوا المنطق والفلسفة، وتهافتت عليه الفرق، وصارت كل فرقة تضع لنفسها متاريس، واشتغلوا بالجدال فانشعبت الفرق الأربع، كل فرقة انقسمت إلى اثنتي عشرة فرقة، الأب يمثل فرقة، والابن يمثل فرقة، يكفر بعضهم بعضاً، السبب كثرة الجدال، ولهذا قال عمر بن عبد العزيز -رحمه الله: "من جعل دينه عرضة للخصومات أكثر التنقل"[1]، يعني كل يوم على مذهب، كل يوم على رأي؛ لأنه يجادل دائماً، فلذلك هنا قال: وَجَادِلْهُمْ وقيده بالتي هي أحسن، وليس بالتي هي أخشن، وقد ذكر بعض أهل العلم في المجادلات أشياء يحمر منها الوجه.

وذكر بعضهم أنه لربما زحف بعضهم إلى صاحبه حتى أخذ بلحيته، ولربما قذفه، وشتمه حينما يحتدم الجدال، فالمجادلة تكون بالتي هي أحسن، هذا، والله تعالى أعلم، وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه. 

  1. أخرجه مالك في الموطأ، برقم (918)، والآجري في الشريعة، برقم (116)، والدارمي في سننه، برقم (312).

مواد ذات صلة