الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
قوله: "فنزلنا منزلاً فمنا من يصلح خباءه"، الخباء يعني بيت من الشعر، ويكون أيضاً من الصوف أو الوبر كما هو موجود إلى اليوم عند أهل البادية، يصلح خباءه يكون على عمودين فأكثر، ومنا من ينتضل ينتضل يعني: يرمي بالنشاب يرمي بالنبل بالسهام، وذلك للتمرن والتدرب على الرمي للجهاد في سبيل الله ، ومنا من هو في جَشَره، والجشر هي الدواب والبهائم التي تخرج إلى المرعى وتبيت حيث هي، يعني لا ترجع إلى أهلها، الدواب أحياناً تخرج إلى المرعى، وفي المساء ترجع إلى مأواها إلى أهلها، وأما الجَشَر فهي التي تخرج وتبيت حيث بلغت، تبيت في المرعى.
يقول: "ومنا من هو في جَشَره إذ نادى منادي رسول الله ﷺ: الصلاةَ جامعة"، هذه دعوة للاجتماع، هل هذه الصيغة هي مجرد دعاء للاجتماع ولو لم يكن فيه صلاة؟ يعني إذا أراد منهم أن يجتمعوا كما في قصة الجَسّاسة في حديث تميم الداري، وقصة المسيح الدجال حينما رأوه في جزيرة من جزائر البحر، فقال: الصلاة جامعة؟، فمن أهل العلم من يقول: إن ذلك لا يقال إلا وتكون فيه صلاة، ويُقصد الاجتماع معها يقول: الصلاة جامعة؛ لأنه ذكر الصلاة.
وهذه الصيغة ليست بنداء للصلاة، فالنداء للصلاة بالأذان كما هو معلوم، وإنما يطلب بذلك -والله تعالى أعلم- الاجتماع والحضور، وإذا قال: الصلاة جامعة فهي دعوة للاجتماع، اجتمِعوا، احضروا.
يقول: فاجتمعنا إلى رسول الله ﷺ فقال: إنه لم يكن نبي قبلي إلا كان حقًّا عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه لهم، وينذرهم شر ما يعلمه لهم، وهذه هي وظيفة الرسل -عليهم الصلاة والسلام- قال: وإن أمتكم هذه يعني النبي ﷺ كذلك لم يدعْ شيئاً مما أعلمه الله إياه مما فيه نفعٌ لهم إلا بينه ودعاهم إليه، وما كان فيه شر حذرهم منه، فمن ذلك أنه قال بعد أن ذكر تلك المقدمة: "إنه لم يكن نبيٌ قبلي" قال هذه المقدمة، ثم قال: وإن أمتكم هذه جُعل عافيتها في أولها، جعل عافيتها في أولها يعني: السلامة من الفتن، وسيصيب آخرها بلاءٌ وأمور تنكرونها أولها ما هو؟ إذا كان هذا الخطاب متوجهاً إلى الصحابة فيكون أول الأمة هي المدة والمرحلة التي كانت قبل الفتن، جعل عافيتها في أولها، وذلك في زمن النبي ﷺ، وفي زمن أبي بكر، وفي زمن عمر، وفي خلافة عثمان إلى الوقت الذي قتل فيه، فلما قتل كسر الباب، وأطلت الفتن بقرونها ولم يغلق إلى يومنا هذا إلى قيام الساعة، فتكون العافية في أول هذه الأمة في ذلك الوقت الذي سلمت فيه من الفتن والبلاء.
ومن أهل العلم من يقول: إن ذلك في القرون المفضلة ولكن هذا لا يخلو من إشكال؛ لأن وقت القرون المفضلة ظهرت رءوس البدع الكبرى التي تفرعت منها الفرق الشيعة والخوارج والمعتزلة والمرجئة، هذه الفرق الأربع الكبار هي التي تفرعت منها الفرق فكان ذلك في القرون المفضلة، فظهر الشيعة في أواخر عهد الصحابة ، وظهر الخوارج كذلك كل هؤلاء في زمن علي ، ثم بعد ذلك ظهرت الطوائف كالقدرية وغيرهم في أواخر عهد الصحابة، وظهر أيضاً المرجئة في زمان التابعين، فالشاهد أن القرون الثلاثة المفضلة ظهرت فيها هذه الفرق جميعاً.
يقول: وسيصيب آخرَها بلاءٌ وأمور تنكرونها، وهذا يدل على أن المقصود بأولها ما أدركه المخاطبون، تنكرونها يعني أن منهم من سيدرك هذا ثم ينكر هذه الأمور التي حصلت.
قال: وتجيء فتنة يُرقِّق بعضها بعضًا، أي: يُهوِّن بعضها بعضًا، ويخفف بعضها بعضا، بمعنى إذا جاءت الفتنة واستنكرها الناس وشقت على نفوسهم جاءت فتنة بعدها أعظم منها فتنسيهم الأولى وتهونها في نفوسهم، ثم بعد ذلك تأتي فتنة ثالثة أكبر من الثانية فتنسيهم الثانية، وهكذا يبقى الناس يتقلبون في الفتن ويتنقلون من فتنة إلى أخرى كما هو الحاصل في عصرنا هذا وفي عصور قبله إلا أنه في بعض الأوقات تزيد الفتن، وفي بعضها تخفت، والله المستعان.
يقول: وتجيء الفتنة فيقول المؤمن: هذه مهلكتي، يقوله المؤمن، أما المنافق فإنه لا يبالي لأن الأمر لا يعنيه وهو لا يكترث بالفتن ولا يخشى على إيمانه بل إنه في أوقات الفتن يرتع ويجترئ على التفوه بما لم يتجرأ عليه قبل ذلك، تكون فرصة لإخراج مخبآت النفوس، فيبدأ يتكلم ويعلن ما كان يخفيه ويشكك ويلبس على الناس ويفت في أعضادهم ويغريهم بمخالفة شرع الله -تبارك وتعالى.
فالمؤمن هو الذي يخاف يقول: هذه مهلكتي، وإذا قال: هذه مهلكتي معناه أنه سيأخذ أقصى حالات الحذر لئلا يقع في ذلك ويهلك، وهلاكه إنما هو بذهاب إيمانه أو بولوغه في هذه الفتن، هذه مهلكتي، فهكذا ينبغي أن يكون شأن المؤمن إذا رأى الفتن لا يكون قُحَمة فيها؛ وإنما ينأى عنها ما استطاع.
قال: ثم تنكشف فهي مثل السحب تمر فمن استشرفها أو استشرف لها فإنه لا يسلم، تستشرفه، وقد جاء عن علي أنه قال: "إن للفتن لقُحَماء"، أي رجال أناس يقتحمون فيها يعني كأنهم خُلقوا لهذا يسرعون في هذه الأمور، فيشتهر أناس -ما كانوا يعرفون- في وقت الفتنة، ويذهبون ويجيئون ويكون لهم من النشاط ما لا يعرف لهم قبل ذلك، ثم تنكشف، وتجيء الفتنة فيقول المؤمن: هذه هذه، يعني: هذه التي ستهلكني، أو هذه الفتنة الحقيقية، هذه الفتنة العظيمة، هذه الفتنة الكبيرة وهكذا، فأعطانا النبي ﷺ الوصية الجامعة في مثل ذلك.
قال: فمن أحب أن يزحزح عن النار، يعني يباعد عن النار، ويدخل الجنة، فلتأته منيته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر، هذه واحدة؛ لأن الناس كما قال النبي ﷺ في الفتن: يصبح الرجل مؤمنًا ويمسي كافرًا، ويمسي مؤمنًا ويصبح كافرًا، يبيع دينه بعرض من الدنيا[2].
قال: وليأتِ إلى الناس الذي يحب أن يؤتى إليه بمعنى أنه يضع نفسه موضع الآخرين فلا يتسرع في الحكم عليهم ولا في اتهامهم ولا في الأخذ بالمتشابه من كلامهم ولا في الوقيعة بأعراضهم فضلاً عن أن يلغ في الدماء، وليأتِ إلى الناس الذي يحب أن يؤتى إليه، هذا الذي يريد أن يسلم من الفتن، وهذا موافق لقوله ﷺ: لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه[3]، فكما أنه يحب أن يحمل الناسُ كلامه على أحسن المحامل وألا يقع أحدٌ في عرضه فضلاً عن أن يعتدي عليه بالقتل فما دونه أو أن يحكم عليه بالضلال أو الكفر والمروق من الدين، وكذلك إذا كان أميراً فإنه يحب أن يطاع، فهنا لمناسبةِ ذكْرِ هذا الحديث في هذا الباب فلا شك أن هذا داخل فيه.
قال: ومن بايع أميراً يعني إماماً، فأعطاه صفقة يده وثمرة قلبه، أعطاه صفقة يده بمعنى: بايعه، والبيعة كانت تؤكد باليد، بالصفق على اليد، يعني العرب كانوا إذا بايع أحدهم الآخر مد يده إليه ثم ضرب أحدهما يد الآخر بكفه تأكيداً، كما أنه في اليمين أيضاً يأخذ بيمين صاحبه، وقيل لها: يمين تأكيداً للحلف باللفظ بالقول فيأخذ بيمينه، وهنا البيعة كأن يعطيه يده فيصفق بيده، وبعضهم يقول: بأصبعين هكذا، نعم صفقة يده، هذا في أصلها، ولكنه يكفي أن يكون ذلك بالقول.
قال:فأعطاه صفقة يده وثمرة قلبه بمعنى أنه عاهده؛ ولذلك يقال لها: بيعة، كأنه باع نفسه، فليطعه إن استطاع ليس معنى ذلك التخيير، وإنما كما سبق لما بايع النبي ﷺ أصحابه قال لهم في آخر ما قال لما بايعوا: "فيما استطعتم" يعني بهذا القيد، لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا [البقرة:286]، فإن جاء آخر ينازعه فاضربوا عنق الآخر يعني بويع لأمير فجاء آخر ينازعه فاضربوا عنق الآخر، وفي بعض الروايات: كائناً من كان[4]؛ لأن ذلك سيشق الصف ويفرق الأمة، وحفظ مصلحة الأمة العامة ودفع الضرر العام عنها ودفع الفتن وأسباب الفتن مقدم على غيره، ولو كان فيه فوات بعض النفوس، ولو بلغ ما بلغ من الحذق والمعرفة والعلم والدين والدراية بسياسة الأمور، أو قيادة المعارك ونحو ذلك، والله تعالى أعلم.
وصلى الله على نبينا محمد،وعلى آله وصحبه.
- أخرجه مسلم، كتاب الإمارة، باب الأمر بالوفاء ببيعة الخلفاء، الأول فالأول، برقم (1844).
- أخرجه مسلم، كتاب الإيمان، باب الحث على المبادرة بالأعمال قبل تظاهر الفتن، برقم (118).
- أخرجه البخاري، كتاب الإيمان، باب من الإيمان أن يحب لأخيه ما يحب لنفسه، برقم (13)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب الدليل على أن من خصال الإيمان أن يحب لأخيه المسلم ما يحب لنفسه من الخير، برقم (45).
- أخرجه البخاري، كتاب الإمارة، باب حكم من فرق أمر المسلمين وهو مجتمع، برقم (1852).