الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
ففي باب "أمر ولاة الأمور بالرفق برعاياهم ونصيحتهم والشفقة عليهم والنهي عن غشهم، والتشديد عليهم، وإهمال مصالحهم، والغفلة عنهم وعن حوائجهم" أورد المصنف -رحمه الله-:
أبو يعلى معقل بن يسار المزني البصري ، روى عن النبي ﷺ أربعة وثلاثين حديثاً، اتفق الشيخان على واحد، وانفرد البخاري بواحد، وأخرج مسلم اثنين منها.
وسكن البصرة، ومات بها في آخر خلافة معاوية ، وإليه ينسب نهر معقل، وفيه المثل المعروف "إذا جاء نهر الله بطل نهر معقل"، وإليه ينسب أيضاً التمر المعقلي في البصرة.
يقول: سمعت رسول الله ﷺ يقول: ما من عبد يسترعيه الله رعية، هذه الصيغة تدل على العموم؛ لأن "عبد" نكرة في سياق الشرط، وهذا يشمل كل عبد صار له هذا الوصف، يعني استرعاه الله رعية سواء كان ذلك بإمامة عظمى، أو فيما دون ذلك، كل من استرعاه الله رعية، يموت يوم يموت وهو غاش لهم، بمعنى أنه لم ينصح لهم، بمعنى أنه أهمل وقصّر، بمعنى أنه كتم عنهم أموراً يحصل بها الضرر، ولم يحطهم بنصحه ورعايته، ولم يقم عليهم بما يجب، يموت وهو غاش لهم، إلا حرم الله عليه الجنة، متفق عليه.
حرم الله عليه الجنة هذا من نصوص الوعيد، ومن أهل العلم من يرى ألا يُتعرض لمثل ذلك؛ لئلا تذهب الهيبة، ومعلوم أن ما دون الشرك تحت مشيئة الله ، فإن عذَّب صاحبَه دخل الجنة بعد حين، ولكنه لا يخلد في النار إلا من كان مشركاً؛ ولهذا من أهل العلم من يقول: إن ذلك في المستحل، وهذا غير صحيح، ومنهم من يقول: حرم الله عليه الجنة حتى ينال عقابه وعذابه، ويأخذ جزاءه ويطهَّر بكير النار.
يقول: وفي رواية:فلم يَحُطها بنصحه لم يجد رائحة الجنة[2]، لم يحطها يعني لم ينصح لها، ولم يولها عنايته، ولم يقم عليها بما ينبغي، لم يحطها بنصحه ما قام عليهم بما يجب، قال: لم يجد رائحة الجنة، وقد جاءت الأحاديث في أن رائحة الجنة توجد من مسيرة كذا وكذا، يعني أنه أبعد ما يكون عن الجنة.
وفي رواية لمسلم: ما من أمير يلي أمور المسلمين ثم لا يَجهد لهم[3]، لا يَجهد يعني: لا يجتهد ويسعى طاقته في تحقيق ما ينفعهم ويصلحهم ودفع ما يضرهم ويلحقهم العنت والفساد بسببه، قال: ثم لا يجهد لهم وينصح لهم إلا لم يدخل معهم الجنة[4]، هناك حرم الله عليه الجنة، وهنالم يدخل معهم الجنة، وفي الرواية الأخرى: لم يرح رائحة الجنة، وهذا كله يؤكد معنىً كبيرًا وهو أن الولايات وإن صغرت فهي ليست بتشريف قط، وإنما هي مسئولية، سيحاسب الإنسان عليها، فيجب أن يجد ويجتهد للقيام بما يستطيع من تحقيق النفع العام، وما يحصل به الصلاح العام، ودفع الفساد بكل صوره وأشكاله، وألا يوظف جهده وطاقته وفكره وما إلى ذلك في أمور يحصل بها فساد أو ضرر، أو أن يرى أن ذلك من المكاسب الشخصية، والمآثر التي يحصلها بجهده وطاقته، فيحرص على المحافظة عليها بأي طريق كان، فهذا كله خلاف النصيحة، وهو داخل في هذا الوعيد.
وإذا استشعر المؤمن مثل هذا فإنه يخاف ويحسب حساباً، وينظر في طاقته وقدراته وإمكاناته، فإن كان يجد في نفسه ضعفاً وعجزاً فإنه لا يتولى شيئاً من أمور المسلمين، ولهذا قال النبي ﷺ لأبي ذر: إنك ضعيف[5]، ثم نهاه أن يتولى على مال يتيم، وأن يتأمر على رجلين، رجل ضعيف، نصح له، وأخبره عن ضعفه.
فالإنسان قد لا يعرف ضعفه، ومن الناس من يُبصَّر بضعفه ويُخبر عن ذلك ويبيّن له ثم يكابر ويأنف، بل ربما يعادي من نصحه، ثم إن الكثيرين لربما لو قيل لهم مثل هذا، لو جاء أحد وعرضت عليه ولاية ثم ذكر هذا الحديث، أو كانت له ولاية فعرضها على غيره بناءً على هذا الحديث، وذكره له لربما استُغفل أو اتهم بضعف العقل، كيف يضيع هذه الرئاسة، وهذه الولاية، وهذا المنصب خوفاً من هذا الحديث؟!، فهذا عند الكثيرين من ضعف رأيه وعقله، وعدم حسن نظره في الأمور.
هذا، وأسأل الله أن يصلح أحوالنا، وأحوال المسلمين، وأن يقينا شر أنفسنا، وأن يعيننا وإياكم على ذكره وشكره وحسن عبادته.
وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.
- أخرجه البخاري، كتاب الأحكام، باب من استُرعي رعية فلم ينصح، برقم (7151)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب استحقاق الوالي الغاش لرعيته النار، برقم (142)، واللفظ له.
- أخرجه البخاري، كتاب الأحكام، باب من استُرعي رعية فلم ينصح، برقم (7150).
- أخرجه مسلم، كتاب الإيمان، باب استحقاق الوالي الغاش لرعيته النار، برقم (142).
- ينظر: المصدر السابق.
- أخرجه مسلم، كتاب الإمارة، باب كراهة الإمارة بغير ضرورة، برقم (1825).