الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فمما أورده المصنف -رحمه الله- في باب "الحلم والأناة والرفق" ما جاء:
"بال أعرابي في المسجد"، الأعرابي: من سكن البادية، والأعرابي ليس بمعنى العربي، فإن العرب جنس من الناس يقابلهم العجم، والأعراب هم سكان البادية، وقيل: إنه لا واحد له من لفظه، على كل حال الأعرابي يجمع على الأعراب بلا إشكال.
هذا أعرابي بال في المسجد مسجد النبي ﷺ وذلك لجفائه وجهله، فهو أعرابي يسكن البادية، معتاد على البول حيثما كان، ومن سكن البادية جفا، فلِمَا في طبيعته من الجفاء، ولما عنده من نقص العلم والجهل بال في المسجد الذي هو محل للتنزيه والتطهير.
"فقام الناس إليه ليقعوا فيه"، الفاء تدل على التعقيب المباشر، يعني: بمجرد أن شَجَ يبول، فقام الناس إليه، كانت ردة الفعل سريعة، وهذا أمر متوقع، يبول في المسجد! وفي بعض الروايات أنه قصد ناحية في المسجد، يعني: على الأقل كأنه أراد إلى حد ما أن يستتر، يعني: ما جلس في الروضة، أو في وسط المسجد، وإنما في ناحية في المسجد.
"فشَجَ يبول"[2]، كما جاء في بعض الروايات، شرع يبول، "فقام الناس إليه ليقعوا فيه"، يعني: بالسب والشتم والزجر، فقال النبي ﷺ: دعوه ليكمل بوله، هو لا زال يبول، فقاموا إليه لزجره، فقال النبي ﷺ: دعوه، وفي رواية أخرى: لا تُزْرِموه[3]، يعني: لا تقطعوا عليه بوله، لماذا لا تقطعوا عليه بوله؟ لأنه قد يتضرر، يتألم، فإن من شرع في ذلك فإنه يصعب عليه قطعه، فالنبي ﷺ قال: دعوه، أي يفعل هذا، يعني: يُكمل، والاستدامة أسهل من الابتداء، كما هي القاعدة الفقهية، يعني: هناك فرق بين إنسان جاء ليبول فيقال: لا، ويمنع من هذا، وبين إنسان بدأ يبول -أعزكم الله، شرع في البول فإذا قُطع تأذى وتألم وتضرر، ثم أيضاً المفسدة حصلت من وقوع البول في المسجد، وانتهاك حرمة المسجد، ولربما كشف العورة، لكن في قطعه مفسدة أخرى وهي: وقوع الضرر عليه، وهذا يدل على رأفته ﷺ ومراعاته لأحوال الناس.
وأريقوا على بوله سَجلاً من ماء، أو ذَنوباً من ماء، بعد أن ينتهي، بلا تعنيف، وبلا ضرب، وبلا زجر، وبلا سب، ولا شتائم، علمهم كيف يصنعون، كيف تُعالج آثار هذه المشكلة.
أريقوا على بوله سجلاً من ماء، السَّجْل والذَّنُوب، بعضهم يقول: هما بمعنى واحد، يعني: الدلو، وبعضهم يقول: الدلو يكون فيها ماء، وبعضهم يقول: الذنوب هي الدلو العظيمة، الدلو الكبيرة يقال لها: ذنوب، المقصود أن النبي ﷺأمرهم أن يصبوا عليه الماء من دلو، سواء قيل: هذه الدلو كبيرة -إذا فُسر الذنوب بهذا- أو غير كبيرة.
قال: سَجلاً من ماء، أو ذَنوباً من ماء يحتمل أن يكون ذلك صدر من النبيﷺ ، يعني: كأنه إن كان ذلك بمعنى واحد، أو خيّرهم سجلاً، أو ذنوباً من ماء.
ويحتمل أن يكون هذا الشك من قبيل الراوي، يعني: النبي ﷺ قال واحدة، وهذا يدل عليه بعض الروايات التي هي مصرحة بهذا، مثل أو قال ذنوباً من ماء[4]، النبي ﷺ قال إحدى العبارتين.
وجاء في بعض الروايات الجزم بواحدة، يعني: قال: ذنوباً من ماء، وجاء في بعضها التصريح بواحدة، وهي السَّجْل.
الشاهد أن النبي ﷺ أرشدهم إلى التصرف الصحيح، وهو أن يصبوا على بوله، مسجد النبي ﷺ ليس كمساجدنا هذه، حيث إن فيها هذه الفُرش، وتحت هذه الفُرش البلاط، أو الرخام، أو نحو ذلك، وإنما هي من الطين والتراب، فإذا صب عليها الماء فإن الأرض تتشرب ذلك.
فالنبي ﷺ ما أمرهم بأن يحفروا في ذلك حتى يصلوا إلى منطقة جافة لم تصل إليها الرطوبة، ويلقى خارج المسجد، اكتفى بهذا التعليم، فقط يُصب عليه، فدل ذلك على يسر الشريعة، الشريعة يسيرة سهلة وهذا من معاني يسر الدين، وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ [الحـج:78]، يُصب عليه ماء، فهذه الشريعة تصلح لكل زمان ومكان، لكل بيئة من البيئات، لا يُكلف الناس فيها العنت والتكاليف الشاقة، وليس فيها التنقير الذي يُخرجها عن يسرها وسهولتها، يُصب عليه الماء، فإذا كوثرت هذه النجاسة التي هي البول، وذهب عينها بحيث لا نرى ذلك ولا أثره -وإنما ذلك بغلبة الظن- فإن هذا يكفي لتطهير المكان، ولم يأمرهم أن يضعوا عليه شيئاً يحجز الناس عنه حتى يجف، فدل على أن هذه المكاثرة بمجردها يحصل بها التطهير، ولو كان المحل رطباً.
لكن لو وقع هذا على هذه الفُرش فإنها تحتاج إلى معالجة، تحتاج إلى صب الماء عليها، ثم سحب الماء مرة بعد مرة، حتى يزول أثر النجاسة؛ لأنك لو صببت عليها سَجلاً من ماء الآن مثل هذا الوضع فإن ذلك سيبعثر النجاسة وينشرها بصورة أكبر.
قال: فإنما بعثتم ميسرين، ولم تبعثوا معسرين، الفاء هنا تدل على التعليل، ويؤخذ التعليل في هذا الحديث من ثلاث نواحٍ:
الأولى: بترك الرجل يبول، يعني: الاستمرار في البول.
الثانية: هي نهي الصحابة عن تعنيفه وزجره، وهذا هو الأعلق بقوله: فإنما بعثتم ميسرين، علموا الجاهل برفق، وبلطف، ولا تعنفوا الناس، وهؤلاء قد يكون الواحد منهم معذوراً.
الثالثة: هي صب الماء عليه بهذه الطريقة، دون أن يطالبهم بما هو أكثر من ذلك، هذه كلها تدل على هذا المعنى.
بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين، وهذا يدل عليه حديث أنس الذي أورده بعده عن النبي ﷺ قال: يسروا ولا تعسروا...[5].
بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين.، هنا خبر، وفي حديث أنس المتفق عليه -أخرجه الشيخان- يسروا أمر، وهذا يدل على الوجوب، ولا تعسروا، وبشروا ولا تنفروا، بشر الناس ولا تنفرهم.
والنبي ﷺ قال: إن منكم منفرين[6]، فالتنفير تارة يكون بالقول، وتارة يكون بالسلوك الفردي، تصرفات الإنسان في نفسه، وتارة يكون في تصرفاته إزاء الآخرين، بالقول يتكلم بكلام يجرح، يعني: أحياناً قد يكون الإنسان خطيباً -مثلاً- ويوجه الخطاب للناس، يعني: كأنه بعيد بمنأى عن هذه المشكلات، أيها الناس، إنكم إن فعلتم، حينما تفعلوا الفواحش، يعني: يوجه الخطاب لهم، هذه الذنوب التي تصدر منكم، وهذه الجرائم، وأكل الربا حينما تأكلون الربا.
قل على الأقل: أيها الأحبة، نقع في هذه الإشكالات، حينما نقع في مثل هذه المقارفات، نحن حينما نعصي الله ، ابدأ بنفسك، هل أنت بمنأى عن هذا؟، جالس بباب الجنة؟
فتوجيه الخطاب إلى السامع بأمور أحياناً تؤذي وتؤلم، وتثقل على السمع، صعبة، ولا زلت أذكر أحد طلبة العلم أعطاني شريطاً أسمعه -قبل أن يخرج- عن تربية الطفل، محاضرة ألقاها، فلفت نظري -ما استطعت أن أكمل الشريط- تكرار كلمة معينة، تتكرر كثيراً في الشريط، "فإذا كان ولدك خبيثاً نشأ على الخبث"، عبارة تتكرر كثيرًا، "إذا كان ولدك خبيثاً"، تكررت كثيراً في الشريط.
السامع يتأذى من مثل هذه الكلمة، يمكن أن تستبدل بعبارات أخرى، ولا توجه الخطاب له تقول: إذا كان ولدك، وأحياناً قد تصدر من الجوال نغمة موسيقى، وينتظر الناس فقط حتى يسلموا أحياناً، هذا في الغالب يصدر من الأعاجم، عُمّال ما سمعوا قط في حياتهم أن الموسيقى حرام، هو ما يعرف هذا ولا سمع به قط، فحقه أن نعلمه.
ولعلي ذكرت لكم في بعض المناسبات، أن أحد هؤلاء تبين أنه حديث عهد بالإسلام، يعني: أسلم مدة أيام، وطول الصلاة، ونحن نسمع الموسيقى، فلما نُظر وإذا الرجل حديث عهد في الإسلام.
أحد الأئمة المعروفين، المشهورين، الخطباء، قبل يومين أو ثلاثة أيام يُحدثني أنه يصلي، ومصلى النساء عندهم فيه خشب، فتحات صغيرة، فهناك طفل أخرج إحليله، وجلس يتبول، ويوصل -ما شاء الله- إلى مسافة، وهم يصلون، ما يصلون في مقدمة المسجد، وإذا البول -أعزكم الله- على الإمام، قال: أنا أنظر هذا الماء من أين ينزل؟ ما فيه، يقول: فلما صلينا نظرت، تحرينا من أين جاءني هذا، وإذا هو طفل جاء مع أمه في مصلى النساء، وما شاء الله من هناك على الإمام، يقول: فماذا أصنع؟، ذكرت لهم حكم بول الصبي والجارية، والفرق بينهما، ووُضع في حجره ﷺ غلام، فبال، علمهم أحكام بول الصبي، وقال: صلاتي صحيحة وصلاتكم صحيحة؛ لأننا لم نعلم إلا بعد انقضاء الصلاة، والحمد لله، وانتهت القضية.
فأحياناً يؤتى بأطفال يزعجون، ثم بعد ذلك يُعنف من جاء بهم تعنيفاً بكلام يجرح، أحياناً لو سألت قد تجد هذا الإنسان يعيش في كربة، ما عنده أحد، غريب في البلد، أمهم في المستشفى، ضاقت عليه الدنيا، هو إما أن يصلي عندهم في البيت، وإما أن يأخذهم معه إلى المسجد، فاختار أن يأتي بهم إلى المسجد، لا يترك الجماعة، فجعلوا يعبثون، فيأتي من يعنف هذا الإنسان.
فأقول: إنما بعثتم ميسرين، يسروا ولا تعسروا، لكن ما هو مفهوم هذا التيسير؟ هذا هو الباب الواسع الذي يحتاج إلى ضبط، فكلٌّ يدعي وصلاً بليلى، الذي يضيع حقائق الدين، ويفتي الناس بأمور كيفما اتفق، ولا يكاد يقول لهم: لا، أو هذا لا يجوز، أو نحو ذلك، يريد أن يرضي الجميع في هذه القنوات الفضائية، يرضي الأقليات في أقاسي الأرض، ويرضي مذاهب أهل البدع والضلال، ويُرضي أهل السنة، وكل شيء عنده لا بأس، لا حرج، المسألة مختلف فيها، وإن كان الذي أميل إليه هو أن الموسيقى لا تجوز، لكن المسألة مختلف فيها.
هذه تقول: أنا امرأة أَلِي من الرجال كل شيء في مستشفى، أنظفهم وأقوم على كل شيء، وأنكر عليّ من أنكر من معارفي وقراباتي، لا، أنتِ على خير -إن شاء الله- وتؤجرين، والحمد لله، وهذا عمل طيب، وهو من الجهاد في سبيل الله، جهاد ماذا؟ فإرضاء الناس بهذه الطريقة، وحيث إنه ما أحد يغضب، ولا أحد يزعل، ولا أحد يقول: متشدد، دعهم يقولون: متشدد، دعهم كلٌّ يتكلم بما يريد، الذي يفتي به علماؤنا الكبار الذين مضوا ومن بقي منهم سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز -رحمة الله عليه، الشيخ ابن عثيمين -رحمة الله عليه، الآن الذي يقول بمثل هذه الأشياء متشدد، بعضهم لما قيل له: هذه فتاوى علمائنا، قال: لو كانوا أحياء لغيروا رأيهم.
هذه تسأل عن لبس القصير بين النساء والتعري؟، لا بأس لا حرج بين النساء، عورة المرأة من السرة إلى الركبة، وتلك تسأل عن التمثيل؟ يقول لها: هل هناك تمثيل بدون امرأة؟ المرأة عنصر أساسي في التمثيل.
هي عنصر أساسي من قصة آدم وحواء فيها امرأة ورجل، قصة سليمان بلقيس امرأة، وهكذا فهذه مشكلة، ما هو مفهوم التيسير؟.
كل أحد يدعي أنه يُيسر، ولكن ضبط ذلك بهدي النبي ﷺ، بنصوص الكتاب والسنة، والفقه الصحيح، هذا هو التيسير، وأما أن يكون بمجرد أنه مختلف في هذه المسألة إذاً لا حرج، كل شيء مختلف فيه، ما في شيء ما هو مختلف فيه، فحُلّلت معاملات كثيرة من الربا والاحتيال على الربا، وضُيع كثير من حقائق الدين كل ذلك تحت مسمى التيسير.
وسيأتي -إن شاء الله- درس مستقل عن مفهوم التيسير وحقيقة التيسير في الشريعة الإسلامية، والله المستعان، ولكن طبيعة الإنسان أيضاً تؤثر في هذا، هذا أمر لا ينكر، يعني: من الناس من يكون طبعه أصلاً هكذا، خِلقةً، فيه لين، فيظهر هذا في فتاواه، وفي أحكامه، وفي نظره للأمور، وتقييمه للأشياء، وحكمه على الناس، ومن الناس من يكون خِلقةً فيه شدة، وفتاواه تميل إلى هذا الجانب، لكن هذا وهذا كل واحد يحتاج أن يضبط كلامه بنصوص الكتاب والسنة، والفقه والفهم على منهج السلف الصالح ، والله أعلم.
وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.
- أخرجه البخاري، كتاب الأدب، باب قول النبي ﷺ: يسروا ولا تعسروا (8/ 30)، رقم: (6128).
- أخرجه ابن ماجه، كتاب الطهارة وسننها، باب الأرض يصيبها البول، كيف تغسل (1/ 176)، رقم: (529).
- أخرجه البخاري، كتاب الأدب، باب الرفق في الأمر كله (8/ 12)، رقم: (6025)، ومسلم، كتاب الطهارة، باب وجوب غسل البول وغيره من النجاسات إذا حصلت في المسجد، وأن الأرض تطهر بالماء من غير حاجة إلى حفرها (1/ 236)، رقم (284).
- أخرجه أبو داود، كتاب الطهارة،باب الأرض يصيبها البول (1/ 103)، رقم: (380).
- أخرجه البخاري، باب قول النبي ﷺ: يسروا ولا تعسروا (8/ 30)، رقم: (6125)، ومسلم، كتاب الجهاد والسير، باب في الأمر بالتيسير، وترك التنفير (3/ 1359)، رقم: (1734).
- أخرجه البخاري، كتاب الأذان، باب تخفيف الإمام في القيام، وإتمام الركوع والسجود (1/ 142)، رقم: (702)، ومسلم، كتاب الصلاة، باب أمر الأئمة بتخفيف الصلاة في تمام (1/ 340)، رقم: (466).