الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
ففي باب "الحلم والأناة والرفق" أورد المصنف -رحمه الله-:
هذا الحديث يدل دلالة ظاهرة على منزلة الرفق، وما ينتج عنه من تحصيل المنافع والمطالب، وما يحصل من تركه من الفوت والخسران.
يُحرم الخير كله، و"كل" هنا تدل على العموم، فظاهره أنه يُحرم الخير كله، في كل شيء، هذا ظاهره، ومن أهل العلم من قال: إن المقصود بقوله:يُحرم الخير، أن "أل" هذه ليست للجنس، وإنما للعهد، الخير الذي ينتج ويحصل من جراء الرفق، وينشأ عنه، قال: وهذا هو المراد بقوله: يُحرم الخير كله.
مع أن هذا خلاف ظاهر الحديث، ولكن الذي يظهر -والله تعالى أعلم- أن العرب تُعبر بذلك إذا كان يترتب على فوات هذا المطلوب المحدَّث عنه خسارة كبيرة في جوانب مختلفة متنوعة، إذا كانت خسارته كبرى قيل فيه ذلك.
تقول مثلاً: الذي يُحرم البر يُحرم الخير كله، الذي يُحرم الصبر يُحرم الخير كله؛ لأن الصبر يدخل في كافة الأبواب، في فعل الطاعات تحتاج إلى صبر، في ترك المعاصي تحتاج إلى صبر، أقدار الله المؤلمة تحتاج إلى صبر، النعم التي تنزل على الإنسان تحتاج إلى صبر؛ من أجل أن لا تُستعمل فيما لا يرضيه، وأن لا يطغى الإنسان بسبب ذلك، كل هذا يحتاج إلى صبر، وقل مثل ذلك حينما يقال: من يُحرم الرضا أو القناعة يُحرم الخير كله؛ لأنه يبقى مشتت القلب، يهفو قلبه لكل ما يسنح، فهو دائماً يفكر ويشغل نفسه بالنظر في تحصيل مزيد من المكاسب إلى غير ذلك مما لا يخفى.
فهنا الرفق يدخل فيه كل الأشياء، الرفق مع الوالدين والأقربين، والرفق مع الجيران، مع الناس، الرفق مع الزوجات، الرفق مع الأولاد، الرفق مع المعلم، الرفق مع التلميذ، الرفق مع الموظفين، الرفق مع الرؤساء والكبراء، الرفق في العمل الذي يؤديه الإنسان، الآن لو أردت أن تُصلح هذه بشيء من العنف، ما الذي يحصل من جراء هذا؟.
يعني: لعل أحدكم يُحدِّث قبل أسبوعين أو نحو هذا أنه جاء بعامل ليكسر شيئاً في الدور الثاني، ثم فوجئ أن العامل يدعوه، وإذا هو ينظر إلى الدور الأرضي، هذا العامل قد خرق السقف لفظاظته وجفائه وسوء صنيعه، من يُحرم الرفق يُحرم الخير كله، جلف، جاف، غليظ فخرق السقف بدلاً من أن يكسر البلاط، بالغ وأفرط، وهكذا في كل شيء، حتى في صلاة الإنسان وعبادته إذا حُرم الرفق حُرم شيئاً كثيراً.
في حل المشكلات، في معالجتها، في التغلب عليها، نحتاج إلى شيء من الرفق، الذين يعالجون الأمور بشيء من القسوة والعنف، أو الفظاظة والشدة يعقدون المشكلة، ولذلك بعض النساء قد تستنجد بأخ أهوج مثلاً فتزيد المشكلة، تقول: جاء أخي فضرب زوجي، جاء أخي وحمل السلاح ووضعه على رأسه، وقال: تلفظ بالطلاق الآن، ثم أخذني معه، فالأهوج لا يمكن أن يُعالج مشكلة.
الرفق مع الحيوانات، مع البهائم، وذكرت لكم ما جاء عن عائشة -ا- لما ضربت الدابة، فقال لها النبي ﷺ: يا عائشة، ارفقي[2].
ولهذا قال النبي ﷺ: إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه في شيء من الأشياء ولا ينزع من شيء إلا شانه[3].
قال: من يُحرم الرفق يُحرم الخير كله، تأمل هذا المعنى، وانظر، لا نقول: إننا حُرمنا كل الرفق، فحُرمنا كل الخير، لكن حُرمنا على تفاوتٍ أقدارًا من الرفق، نتفاوت فيها، فيا تُرى كم حُرمنا بسبب ذلك من الخير؟
إذا كان من يُحرم الرفق يُحرم الخير كله، إذاً يفوته من الخير بقدر ما يفوته من الرفق، فيقال للإنسان الذي فيه عنف وشدة وقسوة: قد فاتك من الخير بقدر ما بُليت به من هذه الفظاظة والشدة والعنف والقسوة.
فالناس بين مقل ومكثر، وبهذا نعلم أن من رزقه الله الرفق فقد رزقه خيراً كثيراً.
ثم ذكر الحديث الآخر:
هذا الرجل لا فائدة من تحديده، وقد حاول بعض أهل العلم أن يعينه، بعضهم يقول: هو أبو الدرداء، وبعضهم يقول: ابن عمر، وبعضهم يقول: جارية بن قدامة، وبعضهم يقول: جابر، لكن فائدة من هذا.
الشاهد أن رجلاً قال للنبي ﷺ: أوصني، الوصية هي الأمر والنهي الذي يؤكَّد، افعل كذا، لا تفعل كذا، مع التأكيد، هذه هي الوصية، أوصى لأولاده بكذا، وأوصى بكذا.
قال: أوصني، قال: لا تغضب، فالرجل يُكرر: أوصني، يريد شيئًا آخر، فكان النبي ﷺ يرد عليه: لا تغضب، هذا الرجل قد يكون ممن يتصف بسرعة الغضب، فقال له النبي ﷺ ذلك.
والنبي ﷺ يذكر لكل واحد ما يناسبه، قال لمعاذ : لا تدعنّ أن تقول دُبر كل صلاة: اللهم أعني على ذكرك، وشكرك، وحُسن عبادتك[2].
وكذلك أيضاً قال لابن عباس : احفظ الله يحفظك...[3]، وهكذا قال النبي ﷺ لآخرين أموراً أخرى.
هنا قال له: لا تغضب، إذا كان الإنسان يسرع إليه الغضب فمعنى ذلك أنه قد يوقعه ذلك في كل مكروه حتى الكفر بالله ، إذا عُرف عن الرجل مثل هذا.
لا تغضب، ليس معناه أن يبقى الإنسان لا يغضب إطلاقاً، بمعنى أنه يكون في موات، النبي ﷺ كان يغضب، ولهذا سيأتي باب يتعلق بالغضب إذا انتهكت حرمات الله -تبارك وتعالى، فالشريعة لا تطلب من الناس أن يتخلوا عما جبلهم الله عليه أصلاً، وذلك أن الإنسان يفرح ويغضب ويرضى، والله -تبارك وتعالى- من صفاته الغضب، والنبي ﷺ كان يغضب إذا انتهكت حرمات الله ، ولكن المقصود أن لا يكون ذلك غالباً على الإنسان، وأن لا يوضع ذلك في غير محله، أن لا يكون هذا الإنسان انفعاليًّا، كما يقال: سريع الانفعال، يُسرع إليه الغضب، فيتلاعب به الشيطان، فيقوده كما يشاء، فيتلفظ بما لا يليق، ويصدر منه من الفعال ما لا يليق، ثم يكون في حال لربما أشبه بالمجنون، يفقد عقله، الذي يقولون له: الإغلاق، أُغلق على عقله تماماً فما يعي ما يصدر منه فيطلق امرأته، ويشتم ربه، ودينه، ويشتم ولده، ولربما قذفه، أو قذف من غضب بسببه، أو نحو ذلك، فيوقعه في كل رزية وأمر مُردٍ.
ولهذا يقال: إن الإنسان ينبغي عليه أن يغضب في المواضع التي يحسن فيها الغضب، وما عدا ذلك فينبغي عليه أن يتحلى بالحلم، والله أعلم.
وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.
- أخرجه البخاري، كتاب الأدب، باب الحذر من الغضب (8/ 28)، رقم: (6116).
- أخرجه أبو داود، كتاب الصلاة، باب في الاستغفار (2/ 86)، رقم: (1522)، والنسائي، كتاب السهو، نوع آخر من الدعاء (3/ 53)، رقم: (1303).
- أخرجه الترمذي، أبواب صفة القيامة والرقائق والورع عن رسول الله ﷺ (4/ 667)، رقم: (2516).