الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
ففي باب "الحلم والأناة والرفق" أورد المصنف -رحمه الله-:
قوله: ﷺ: إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فهذه دالة على العموم فيدخل في ذلك الإحسان في التعامل مع النفس، والتعامل مع من تحت يده ممن استرعاه الله ، ويدخل فيه أيضاً التعامل مع الناس، والتعامل مع البهائم والدواب، والتعامل مع غيرها مما يتعاطاه الإنسان أو يتصرف فيه بلون من التصرفات من الجمادات وغيرها.
الإحسان كلمة بليغة معبرة، وفي عبادة الله -تبارك وتعالى: الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك[2].
الله -تبارك وتعالى- يقول في العبادة: خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا [الملك:2]، فهو المقصود الأعظم الذي من أجله خُلق الخلق، وهكذا في كل عبادات الإنسان وأعماله، فيما يتقرب به إلى الله -تبارك وتعالى- هو مطالب بالإحسان، وقل مثل ذلك في الإحسان إلى من تحت يده، من زوجة، وولد، وخادم، فيُحسن إليهم بكل وجه، بالقول، وبالمال، وبالمعاشرة، والتلطف بهم، وتلمس الحاجات، والقيام على شئونهم، والإحسان في معالجة مشكلاتهم، وتصحيح أخطائهم، وتقويم المعوج من عيوبهم، كل هذا بالإحسان.
كتب الإحسان على كل شيء، وقل مثل ذلك في التعامل مع سائر الناس، والتعامل مع البهائم أيضاً والدواب، يُحسن إليها لا يحملها من العمل أكثر مما تطيق، لا يجوعها، يعطيها ما تأكله، وما تحتاج إليه.
فإذا قتلتم فأحسنوا القِتلة، ذكر النبي ﷺ صورتين من الإحسان في أمر قد لا يتصور فيه الإحسان، يعني: ماذا بعد إزهاق الروح قصداً الذي هو القتل، أو الذبح فيما يُذبح؟
ليس بعده شيء، إزهاق الروح هو نهاية الحياة، فماذا عسى أن يكون الإحسان فيه أيضاً؟، حتى مع هذا الذي يحصل به إزهاق الروح وفوات النفس إذا قتلتم فأحسنوا القِتلة.
القتل هو إزهاق الروح قصداً، قتله قصاصاً، يعني: قتله بحق بالنسبة للآدميين، قتله قصاصاً، قتله حدًّا، وهكذا أيضاً القتل للكفار المحاربين، فإنه كما هو معلوم لا تجوز المثلة.
والله -تبارك وتعالى- يقول أيضاً في القصاص: وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا [الإسراء:33].
لا يُسرف في القتل يدخل فيه صور من الإسراف في القتل منها: أن يقتل غير القاتل، كما كانوا يفعلون في الجاهلية، يقول لك: هذا قتله واحد من عامة الناس، عامة القبيلة، لكن هذا سيد ما يكافئه إلا السيد، فلان يُقتل به، وذاك لا ذنب له، وهكذا أيضاً قد يُمثل به ويتشفى منه، وهكذا أيضاً قد يقتل جماعة من الناس.
إذا قتلتم فأحسنوا القِتلة، ما يعذب هذا الإنسان، ويقتص منه بهذه الطريقة.
وإذا ذبحتم فأحسنوا الذِّبحة، القِتلة والذِّبحة بالكسر هي الهيئة، يعني: هيئة القتل، صورة القتل، صفة القتل، إذا ذبحتم فيما يُذبح من البهائم فأحسنوا الذِّبحة، بمعنى: أنه لا يُعذب هذه البهيمة قبل ذبحها بجرجرتها، بأن يذبحها وهي ترى قبلها ما يُذبح من أخواتها، وقد يضع السكين عليها مدة قبل أن تُذبح، أو يضعها على الأرض -أو وهي قائمة- والسكين أمامها، وإنما يخفي عنها السكين، ويجعلها تشرب إذا احتاجت للشرب، وكذلك أيضاً يعطيها مجالاً للاسترواح، فإذا ذبح فإنه يذبح ذبحاً ناجزاً بمعنى أنه لا يجرجرها ويلغلغها، بحيث إنها تتعذب، ويعطيها مجالاً للتحرك عند زهوق الروح، أحياناً تجد الأسرة كاملة تجلس على هذه البهيمة، خروف، الأم والأب، والأولاد والبنات، الجميع جالس عليه، من أجل أن هذا يمسك يدًا، وهذا يمسك رجلا، وهذا يمسك شعرًا، لابد الجميع يضع يداً، فيمسك بطرف، حتى إنه قد يموت قبل أن يُذبح، تكاد عيونه تخرج، هو من العصر، أو من الخوف، أو من الضغط عليه، هذا غلط.
فالمفروض كما كان النبي ﷺ يفعل حينما كان ﷺ يضع قدمه على صفحة العنق ويذبح، ثم بعد ذلك يكون هناك مجال لهذه البهيمة تتحرك وتضطرب، وهذا أسهل لها عند زهوق الروح، أمّا أن تُكتم أنفاسها ما يتحرك منها عرق فهذا غلط.
وهكذا أيضاً لا يبدأ بتقطيعها وسلخها قبل أن تموت وتخرج روحها، وقل مثل ذلك أيضاً بطريقة الذبح، بمعنى أنه يقطع الودجين والحلقوم والمريء، هذه أربعة أشياء قطعها جميعاً أسهل بخروج الروح، مع أنه يُجزئ قطع اثنين، لكن ذلك قد يتعبها، يعني: لو قطع أحد الودجين مع الحلقوم مثلاً هي ستموت، ولكن هذا بعد معاناة شديدة، فلو قطع الأربعة لكان ذلك أسرع في زهوق الروح، وأيسر على هذه البهيمة.
إذا ما كانت القضية قضية ذبح، فكيف يكون الإحسان؟ لا شك أنه من باب أولى، فإذا كان هذا مع بهيمة تذبح الآن، أو مع إنسان يستحق القتل، مجرم، ومع ذلك ينبغي أن يُحسن في طريقة القتل، إذاً الذي لا يجوز قتله من الناس، المحترم، معصوم الدم، كيف يكون التعامل معه والإحسان إليه؟ فالشريعة تراعي هذه الأمور غاية المراعاة.
قال: وليُحدَّ أحدكم شفرته، وليرح ذبيحته، الشفرة هي السكين العريضة، فإذا كانت السكين غير حادة فإن ذلك يكون تعذيباً للبهيمة، وليرح ذبيحته، بما ذكرت.
"ما خُير رسول الله ﷺ بين أمرين قط إلا أخذ أيسرهما"، هذا أيضاً للعموم "ما خُير بين أمرين إلا اختار أيسرهما"، يدخل في هذا أمور الدنيا، القضايا المتعلقة بالدعوة أيضاً، يدخل في هذا قضايا العبادات، هذا ظاهره العموم، وإن قال بعضهم: إن العبادات غير داخلة في هذا، والواقع أنها داخلة فيه؛ لأن قصد التكلف والمشقة في العبادة غير مطلوب.
فيدخل في هذا أمور كثيرة جدًّا، في أمور العبادات، والعادات والمعاملات، على سبيل المثال: عندك طريقان في السفر: طريق فيه عقبة، وصعب، ووعورة وربما جلد، وطريق آخر سهل، في أرض سهلة، ليس فيه هذه العراقيل، فماذا تختار؟ تختار الأيسر.
ومن الناس من لا يروق له إلا الصعوبة والحُزُونة والشدة، يحب المغامرة، فيبحث عن الأصعب، وقد يكون هلاكه فيه، وهذا غلط، والمشكلة تكون أكبر إذا كان يحمّل الآخرين هذا، يعني: معه أطفال، معه نساء، معه أهله، ما يريدون هذا، لكن هو يريد هذا، فكم من إنسان مات وأهله عطشاً، أو جوعاً، أو نحو ذلك، أو تاهوا في صحراء، انقطعوا من الناس، وماتوا، والسبب هو حب المغامرة، ما يريد أن يسلك الطريق الذي يسلكه الناس، يريد أن يذهب كما يقول: قُطُوع، يريد أن يمشي في الصحراء، في الحر، معه أطفال، معه نساء، يريد أن يغامر، يسمع أن بعض الناس يذهبون من هذا الطريق، هذا غلط.
كذلك أيضاً في أي مشروع كالتخرّج مثلاً، عُرض عليك خيارات، يمكن أن تدرس ساعات معينة، يمكن أن تقدم بحثاً، يمكن أن تكتب مقالاً في الحال، بعض الناس ما يروق له إلا الأصعب، هذه الأيام أيام اختبارات، جاء له سؤال اختياري، اختر أي سؤال، بعض الناس ما يروق له إلا السؤال الصعب، هو لا يجد ذهنه يعيش في شيء من اللذة والمتعة، ونحو ذلك إلا مع الأشياء الصعبة، وكما قال شيخ الإسلام: إن من الناس من قد لا يقبل الحق، حينما يبين له إلا بطريقة فيها عُسر وصعوبة ودقة لا يفهمها كل أحد، من أجل أنه ما يريد أن يتساوى مع عموم الناس، ما تأتيه بأدلة واضحة، وتستدل بها، تحتاج أن تأتيه بأدلة معقدة، ما يفهمها إلا النادر من الناس، فهذا إذا ناقشته بهذه اللغة قبل وسلم لك وأذعن، وهكذا من الناس في التعليم من لا يريد الطريقة السهلة، يقول: هذه أشياء معروفة، آيات وأحاديث، وماذا تريدون؟، وما هو العلم إلا الآيات والأحاديث؟!، هو يريد كلامًا صعبًا، ويريد أن نكلمه بلغة الشَّرطي المنفصل، وبلغة لا يفهمها عامة الناس، كلام المناطقة، فهذا الكلام غير صحيح، هذه الطريقة خطأ، المفروض أن الإنسان يسلك الأسهل دائماً.
وقل مثل ذلك في أمور الأعمال والمكاسب، خُير بين عملين تريد هذا العمل أو تريد هذا العمل؟ ما هو الطبيعي؟ تختار الأيسر.
وقل مثل ذلك أيضاً فيما يتعاطاه الإنسان أحياناً في المشكلات، بعض الناس لابد أن يصعد المشكلة، ولابد من المحكمة، وقد يُعرض عليه صلح يسير، وتُنهى فيه المشكلة وانتهينا، ما يقبل، لابد أن يركب الطريق الأصعب، التعامل معه صعب، ما تستطيع أن تتخلص، لا تخلّص حقًّا، ولا حقك يأتيك.
قال: "ما لم يكن إثماً"، بمعنى: أنه لا مجال لاختيار الأسهل، كما يفعل بعض الناس، يختار الفتوى الأسهل مثلاً؛ لأنها توافق هواه، هذا لا يجوز؛ لأن الحق عند الله واحد، فحتى لو أفتاه من أفتاه، إذا ما وافق الحق، وقد سأله تتبعاً للرخص، وتجارياً مع الهوى، فإن الذمة لا تبرأ في هذه، ولو أفتاه من أفتاه.
وكل ما سبق يدل على معنى وهو: أن السهولة واليسر في الأمور هو المطلوب، وهذه قد تكون سجية في النفس، يُجبل الإنسان عليها، وقد يكون ذلك تكلفاً يتكلفه الإنسان، ويروض نفسه عليه، حتى يعتاد هذا الخُلق.
واختيار الأيسر والأسهل تجده إن وُفق الإنسان إليه صارت أموره سمحة غالباً، في كل شأن من شئونه.
قال: "وما انتقم رسول الله ﷺ لنفسه في شيء قطُّ إلا أن تنتهك حرمة الله، فينتقم لله تعالى".
"ما انتقم لنفسه في شيء قطُّ"، بمعنى: في الأمور الشخصية، وقوله: "إلا أن تنتهك حرمة الله"، هذا استثناء منقطع، معنى الاستثناء المنقطع: أنه ليس المستثنى بجزء من المستثنى منه.
بمعنى: لكنْ إذا انتهكت حرمة الله انتقم لله وليس لنفسه، هذا معنى كونه استثناء منقطعًا، وبعضهم يقول غير هذا.
قال: "إلا أن تنتهك حرمة الله فينتقم لله تعالى"، إذاً ما ينتقم لنفسه، وهذا خلق رفيع عالٍ، يحتاج الإنسان أن يروض نفسه عليه، وأن يحملها على هذا قدر الإمكان، أن لا ينتقم لنفسه.
النفوس تكون حاضرة عند المخاصمات، وحينما يحصل للإنسان شيء لربما من الظلم أو الاستفزاز، أو نحو ذلك، فيريد أن ينتقم، فلربما انتقم بأعظم مما ظلم، ولربما كان ذلك -كما قال شيخ الإسلام- في الدعاء، يعني: إنسان ظلمه مظلمة يسيرة، فيدعو عليه بأعظم مما ظلمه، هذا الإنسان لربما أخذ عليه عشرة ريالات، فيدعو عليه بالموت والهلاك، وتيتيم الأطفال وترميل النساء، لأجل عشرة ريالات!، فهذا صار ظالماً بدعائه هذا بأعظم مما ظُلم فيه.
فإذا استطاع الإنسان أن يربي نفسه على هذا الخلق، لا ينتقم لنفسه، فهذا كمال، والله المستعان.
الناس يتفاوتون في هذا غاية التفاوت، من الناس من يكون قلبه كالجمل لابد أن يحمل، وأن ينتقم ويتربص، من الناس من يعفو ويصفح ويبقى في نفسه حُسيكة، ومن الناس من قد يعفو ويصفح ولا يبقى في نفسه شيء، من الناس من يكون غضبه سريعاً، لكن رجعته سريعة، ومنهم من يكون غضبه سريعاً، ورجعته بطيئة، ومنهم من يكون غضبه بطيئاً ورجعته سريعة، ومنهم من يكون غضبه بطيئاً ورجعته بطيئة، بعض الناس تسترضيه بكل وجه ولا يقبل، فهذا أمر لا يُحمد من الإنسان، والله أعلم.
وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.
غداً -إن شاء الله تعالى- بمناسبة قرب الإجازة، لعلي أتكلم حول موضوع الزواجات؛ لقرب الموسم، الإنسان لا يخلو إما يكون له قرابة يتزوجون، أو له من أهله، أو هو يريد أن يتزوج، فهناك بعض الجوانب التي تحتاج إلى شيء من التوجيه في ظني غير ما ذكرته في مناسبات سابقة حول موضوع مقومات الحياة الزوجية بشيء من التفصيل، لكني أذكر أشياء أخرى بإذن الله مما يُحتاج إليه، والله أعلم.
وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.
- أخرجه مسلم، كتاب الصيد والذبائح وما يؤكل من الحيوان، باب الأمر بإحسان الذبح والقتل، وتحديد الشفرة (3/ 1548)، رقم: (1955).
- أخرجه البخاري، كتاب تفسير القرآن، باب قوله: إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ [لقمان: 34] (6/ 115)، رقم: (4777)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب معرفة الإيمان، والإسلام، والقدر وعلامة الساعة (1/ 36)، رقم: (8).
- أخرجه البخاري، كتاب المناقب، باب صفة النبي ﷺ (4/ 189)، رقم: (3560)، ومسلم، كتاب الفضائل، باب مباعدته ﷺ للآثام واختياره من المباح أسهله وانتقامه لله عند انتهاك حرماته (4/ 1814)، رقم: (2328).