الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فهذا هو الحديث الأخير في باب "الحلم والأناة والرفق"، وهو:
ألا أخبركم بمن يحرم على النار، أو بمن تحرم عليه النار؟، يحتمل أن يكون هذا الشك من الراوي، بمعنى أن التردد حصل للراوي، وأن النبي ﷺ قال إحدى الجملتين، يعني: يكون الرسول ﷺ قال: ألا أخبركم بمن يحرم على النار، أو قال الأخرى: بمن تحرم عليه النار، وهل المؤدى واحد لو فُرض أن النبي ﷺ قال الجملتين، أو أن إحدى الجملتين أبلغ من الأخرى؟
بعضهم يقول: إن قوله: ألا أخبركم بمن يحرم على النار دون قوله: أو بمن تحرم عليه النار، يعني: يحرم على النار أنه لا يدخل النار أصلاً، تحرم عليه النار أنه حتى لو دخلها فإنها لا تضره، هكذا قال بعضهم، والذي يظهر -والله أعلم- أن ذلك يرجع إلى شيء واحد بمعنى أن هذا الإنسان لا يدخل النار. بمعنى: أنه لا يعذب بالنار.
من هو الذي لا يعذب بها، يحرم عليها أو تحرم عليه؟ قال: تحرم على كل قريب هين لين سهل، قريب، يمكن أن يفسر بأنه السهل، بمعنى أنه إن وقع عليه شيء من المظلمة، أو الخطأ، أو نحو ذلك، فاستُرضِي يرضى، قريب.
لكن من الناس من لو وقع في حقه شيء من التقصير فإن رضاه لا ينال، ولا يمكن أن يستدرك هذا الخطأ في حقه مهما اعتذر إليه، فهذا ليس بقريب، هذا بعيد، ولهذا فإن من أهل العلم من يفسر القريب هنا بأنه السهل.
لكن لما ذكر النبي ﷺ السهل في هذه الأوصاف في آخرها كان التأسيس أولى من التوكيد، يعني: بمعنى أن لا تكون كلمة قريب بمعنى سهل، فتكون مكررة، فيكون القريب بمعنى أنه قريب الفيئة إذا حصل له صدود، غاضَبَ أحداً، وهو قريب أيضاً إذا استُرضِي، وهو قريب أيضاً حينما يُحتاج إليه في شيء، إلى غير ذلك من المعاني.
وأما الهين واللين، فالهين هنا صفة مدح، وأما الهوان فهو صفة ذم، الهوان قريب من معنى الذل، وأما الهين هنا فمعناه أنه ليس بصعب، ولا شَكْس، ولا عَسِر.
يعني: من الناس من يكون فيه شيء من الرعونة والصعوبة، والقرب منه مشكلة، إذا اقتربت منه فأنت لا تأمن على نفسك من غوائله.
فلان هين لين، بمعنى أنه طيع يستجيب، ولا تصل به الخصومة إلى حد يؤذي به الآخرين، أو أن يظلمهم، أو نحو ذلك، ولا يكون هذا الإنسان متمنعاً حينما يُطلب منه النزول عن بعض حقه، أو نحو ذلك، فلان هين لين، واللِّين ضد الشدة، والسهل هو الذي يقابل الصعب والشديد.
هذه أوصاف قسمها الله على عباده، والناس لا يستوون في ذلك إطلاقاً، ومنهم من يوهب هذه الأوصاف، ومنهم من يحصّل بعضها، أو كثيراً منها بالترويض والمجاهدة، وتربية النفس، وكما قال النبي ﷺ: إنما العلم بالتعلم، وإنما الحلم بالتحلم[2].
فذاك الإنسان الذي يقابل هذه الأوصاف، يعني: ليس بهين، ولا لين، ولا سهل، ولا قريب، معناها أنه صعب شديد، شكس الطباع، لا يمكن أن يُغضي، أو أن يتجاوز، أو أن يتنازل، أو أن يفوّت حقًّا من حقوقه، ومن حصل منه -في وهمه على الأقل- شيء من الإساءة في حقه، فإن هذا الإنسان الشديد لا يترك سبيلاً إلا سلكه من أجل استقصاء حقه، فتجد هذا في كل أموره، إذا وقف جاره عند بيته صارت مشكلة، ولهذا قد يصل الأمر أحياناً إلى وضع أحجار، وطوب وأشياء من أجل أن لا يقف أحد أمام البيت، ومن وقف فلا يلومن إلا نفسه، لو طفل صغير من أبناء الجيران رمى حجراً، أو نحو ذلك في فناء الدار، أو على الباب، أو نحو ذلك، هذه صارت، مشكلة تصل أحياناً إلى الشُرط، لو أن أحد أولاده ضربه أحد أبناء الجيران، أو نحو ذلك ما تنتهي القضية، يقدم شكوى ويجرجر الجيران.
وهكذا ولدك قال كذا، زوجتك قالت لزوجتي كذا، وفي كل يوم مشاكل مع هؤلاء الجيران، لو وضعوا خشبة على الجدار، أو نحو ذلك من حوائجهم حصلت مشكلة، فمثل هذا لا يستطيع الناس أن يتعاملوا معه، ويتحاشاه الجميع، فيبقى منبوذاً -نسأل الله العافية.
وإن عاملهم بالدينار والدرهم فإنه لا يترك شيئاً من حقه إلا استقصاه، لا يعرف الإمهال، وما جاء في التيسير، والإنذار للمعسر، أو نحو ذلك، وإنما يقف عند حقه فيستوفي ذلك جميعاً دون إمهال أو إرفاق، ولا يبالي، يمكن أن يقفل العداد، ويقفل الماء، وفي البيت أطفال يتضاغون، وهو لا يبالي بهم، جاء اليوم الذي يدفع فيه الإيجار لابد أن يدفع، بل إن بعضهم هدم الحاجز الذي في الدَّرَج، يمكن أي طفل أن يسقط من أجل أن يُضطر هؤلاء إلى الخروج من المبنى، وفيهم أيتام، فهو كذلك في تعاملاته.
بينما الآخر الهين اللين إذا قالوا له: نحن الآن ننتظر إلى آخر الشهر، ننتظر إلى رمضان، إلى كذا، أمهلنا، نحن في ضائقة.
قريب سهل هين لين، وإذا طلب منه الناس أن يتنازل عن بعض مظلمة، أو حق، أو نحو ذلك، فالأمر قريب، قالوا: نحن نجلس ونصطلح، فلا إشكال، وأما الآخر فلا يفهم هذه اللغة إطلاقاً، لو أحد في الطريق احتك بسيارته، أو نحو هذا تقول له: ما تريد سنعطيك إياه، لكن لا تُوقفنا بالشارع، وتَضيع أوقاتنا وفي الشمس، لا، لابد أن يحضر المرور، ما تريد سيعطى لك، أبداً، هو مستعد إلى آخر نفس أن يكابد.
مثل هذه الأخلاق -أيها الأحبة- ليست من أخلاق أهل الجنة، المؤمن يتنازل عن بعض حقه، يتحمل، يصبر، يعفو، يصفح، لا يؤذي إخوانه المسلمين بفعل، يظلمهم بيده، أو يأخذ أموالهم ونحو ذلك، ولا يؤذيهم بالقول، يتكلم فيهم، يجرح مشاعرهم بكلام لا حاجة إليه، ولو رأى منهم ما يكره من الأقوال والفعال يكظم ذلك في نفسه، ويصبر، ويحتسب عند الله ويعفو ويصفح.
هذه أخلاق يحتاج الإنسان أن يروض نفسه عليها، وأن يربي من تحت يديه من الأولاد والتلاميذ على هذا اللون من الأخلاق؛ لأن هؤلاء الصغار حينما يرون والدهم، أو من يقوم على تربيتهم مشاكساً، ويرى أن هذا هو الكمال، وأن هذا هو القوة، وأن هذا هو الوصف الذي يمدح عليه الإنسان، فإنهم سيكونون مثله؛ لأن البيئات المريضة المحمومة بهذه الأخلاق المرذولة، ما الذي يحصل للناشئة فيها؟ يحصل لهم تقمص هذه الأخلاق؛ لأنهم يسمعون صباح مساء أن الإغضاء والترك والإعراض والتنازل والعفو أنه من التضييع، والضعف، والخنوع، وأن هذا من النقص، وإذا رأوا واحداً منهم يبدو من حماليق عينيه منذ نعومة أظفاره أنه لا يدع شاردة ولا واردة من حق إلا استقصاه، فهذا هو الممدوح عندهم، فيثنى عليه.
يقول: في طالب في المدرسة ولد في المدرسة ضربني كذا فضربته ضربة كذا، وكسرت أنفه، نعم، بطل، رجل، كذا، يربَّى على هذا، فيفرح وينتشي، ثم تكبر معه هذه الصفات، ولا يمكن بعد ذلك تلافيها واستبدالها بغيرها، والله المستعان.
والله أعلم.
وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه وسلم.
- أخرجه الترمذي، أبواب صفة القيامة والرقائق والورع عن رسول الله ﷺ (4/ 654)، رقم: (2488).
- أخرجه الطبراني في المعجم الأوسط (3/ 118)، رقم: (2663)، والبيهقي في شعب الإيمان (13/ 236)، رقم: (10254).