الجمعة 13 / جمادى الأولى / 1446 - 15 / نوفمبر 2024
حديث «البر حسن الخلق..» ، «إن من خياركم أحسنكم أخلاقًا»
تاريخ النشر: ٠٦ / جمادى الآخرة / ١٤٣٠
التحميل: 1590
مرات الإستماع: 7971

البر حسن الخلق

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فمما أورده المصنف -رحمه الله- في باب "حسن الخلق":

حديث النواس بن سَمعان -ويقال أيضاً بالكسر: سِمعان قال: "سألت رسول الله ﷺ عن البر والإثم؟ فقال: البر حسن الخلق، والإثم ما حاك في نفسك، وكرهت أن يطلع عليه الناس[1]"، رواه مسلم.

هذا الحديث تقدم في باب "الورع"، والشاهد هناك هو قوله ﷺ: والإثم ما حاك في نفسك وكرهت أن يطلع عليه الناس، والذي يتصل بهذا الباب هو قوله ﷺ حينما سأله النواس عن البر والإثم؟ فقال: البر حسن الخلق.

البر يقال للطاعة والمعروف، فالبر كلمة جامعة هي من أجمع الألفاظ في دلالتها، حيث إنها تدل على طاعة الله ، ومحابِّه، ومراضيه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة، كل هذا يقال له: بر، أعمال القلوب: الإيمان بر، الخوف من الله بر، محبة الله بر، الكرم بر، الحياء بر، وكذلك أيضاً الصلاة بر، والصيام بر، والأذان بر، والصدقة بر، كل هذا من البر، كما قال الله : وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ [البقرة:177] الآية، فجمع هذه الأمور -أصول الإيمان، وأيضاً الإنفاق في سبيل الله مع إقام الصلاة إلى آخر ما ذكر الله -تبارك وتعالى، فهذا هو البر، كل معروف فهو من البر، كل شيء هو طاعة فهو من البر، فسأله عن البر فقال: البر حسن الخلق، يعني أن عامة البر مضمن في حسن الخلق، وهذا يدل على قيمة الخُلق، وعِظم منزلته، وذلك أن الإنسان إذا كانت أخلاقه حسنة فإنه يسلم من كثير من الآفات، ويحمله ذلك على كثير من المعروف.

الحياء من البر، والنبي ﷺ قال: الحياء لا يأتي إلا بخير[2]، فإذا كان الإنسان عنده حياء مثلاً فإن ذلك يحجزه عن مواقعة ما لا يليق، يستحي من الله، يستحي من خلق الله، وكذلك أيضاً يستحي من نفسه، كما هو الشأن في أهل المروءات، وكذلك أيضاً إذا كان عنده حياء فإنه يؤدي الحقوق، إذا كان الإنسان يتحلى بحسن الخلق فإنه يطيب كلامه، وتحسن فعاله، وتكون معاشرته لينة هينة طيبة فلا يُسمع منه إلا القول الجميل، ولا يصدر منه إلا الفعل الجميل، هكذا الأخلاق الحسنة، فقال: البر حسن الخلق، والإثم ما حاك في نفسك وكرهت أن يطلع عليه الناس، وذلك يكون بالنسبة للنفوس التي لا زالت فطرتها حية، والقلوب التي لا زالت حية، أما القلب إذا كان ميتاً والفطرة قد طُمست فإن الإنسان لا يحيك في نفسه ذلك، بل يتبجح بالمنكر والفاحشة، والمعصية، ولربما يفتخر بذلك في المجالس، أما الذي يتلجلج في نفسه -حاك يعني تردد- يتردد في نفسه هل هذا أمر جيد أو غير جيد، هل يجوز أو لا يجوز، ولا يريد أن الناس يطلعون على أنه فعله أو تعامل بهذا النوع من المعاملة، أو نحو ذلك فهذا هو الإثم وهو إرشاد للورع في الواقع، وإلا فإن الإثم أوسع من هذا، يعني أكل الربا هذا ما يحيك في النفس هذا واضح، سرقة أموال الناس هذا كله من الأمور المحرمة الواضحة، لكن المشتبهات هي التي تتردد في النفوس.

إن من خياركم أحسنكم أخلاقاً

ثم ذكر الحديث الآخر:

حديث عبد الله بن عمرو بن العاص -رضى الله عنهما- قال: لم يكن رسول الله ﷺ فاحشاً ولا متفحشاً، وكان يقول: إن من خياركم أحسنكم أخلاقاً[3]، متفق عليه.

الفحش هو ما عظم قبحه من القول والفعل، "لم يكن فاحشاً": يعني لم يكن ذلك سجية وخلقاً وعادةً له ﷺ، حاشاه من ذلك، لم يكن ذلك من أخلاقه وسجاياه وما جبل عليه، والمتفحش هو الذي يتكلف التفحش، يعني من الناس من يكون طبعه الفحش، يتكلم بالفحش، وهذا الذي يصدر منه، ويُستغرب منه خلاف ذلك، والناس لا يستطيعون مقاربته ولا معاملته ولا مخاصمته ولا محاورته؛ لأنه فاحش ما تدري ما يأتيك منه، يرسل لسانه في الكلام القبيح ورمي الناس وقذفهم والوقيعة بهم بكبار القول من الفحش والمنكر.

"ولا متفحشاً" لم يكن يتصنع ذلك ويتكلفه، يعني من الناس من قد يَرى الآخرين ولا سيما أنه يرى أحياناً من يظن أنه قدوة، وهذا للأسف يوجد في بعض البيئات، قد يكون هذا القدوة قدوة باعتبار أنه والد، أو باعتبار أنه أحياناً رجل له وجاهة، وأحياناً يكون هذا من أهل العلم، فيحاكيه تلامذته والطبع لص، الطبع سرَّاق، أحياناً قد تجد في بعض البيئات، قد تجد في بعض أهل العلم، وقد يكون من العلماء فعلاً، قد تستغربون هذا لكنه موجود: المزاح عندهم باللعن، وينك يا ابن كذا، هذا يمزح معه، وفي لجنة المناقشة، في مناقشة ماجستير أو دكتوراه في القاعة أمام الناس يقول للطالب: أنت والشيخ -شيخك يعني- يا ابن الكلب، والطالب يبتسم ويضحك والشيخ يضحك؛ لأن هذا الشيخ الكبير جدًّا هذه السبة واللعنة منه تعتبر وسام شرف في نظرهم أو نحو ذلك، يلقاه هذا عند باب المسجد وهو خارج وهذا داخل أهلاً أنت فينك يا ابن كذا، بل يقول عن نفسه هو، أحياناً قد يناقَش أو يعطَى كتابًا في قضية تتعلق بالعقيدة أو نحو ذلك والرجل قد يكون نشأ على عقيدة الأشاعرة أو كذا، فيقال له: ها ما رأيك، ما الكلام هذا؟ فيقول: تبين إحنا ابن كذا، يقول عن نفسه، فالفحش أحياناً يكون هكذا -نسأل الله العافية، يعني أحياناً قد يحصّل الإنسان كثيراً من العلم بلا تربية، ولذلك مثل هذا إذا خالطته أو صار لك أدنى تعامل معه ونحو ذلك ما تدري ماذا يأتيك منه، قذائف من الكلام الفاحش البذيء، وبعضهم قد يفعل ذلك في مجالسه الخاصة، يعني يتبسط، ويكون الحديث من السرة إلى الركبة -أعزكم الله، وهذا قد تجده في بعض من ينتسب إلى دين أو من ينتسب إلى علم، قد يوجد، فإذا وُجد من التلاميذ من يسمع مثل هذا الكلام أحياناً فإنه قد يتقمص ويتلقف هذه الأشياء باعتبار أنه يتلقى منه، ويعجب به، وأنه ما صدر منه ذلك إلا أن هذه الأمور لا إشكال فيها، وبعضهم قد يجد بعض العبارات في بعض التراجم، تراجم بعض من يقتدى بهم، أحياناً قد يوجد، وقد يوجد في أشعارهم من القذف والإقذاع بالقول، وقد يكون هذا البيت ينسب إلى إنسان، انظروا في الدواوين المنسوبة لبعض من ينسب إلى دين أو نحو ذلك، قد تجد في بعضها أشياء من هذا القبيل، فيتقمصها أحياناً الناظر فيها من باب إحسان الظن، أنه يحسن الظن بهذا، فيتلقف مثل هذه الأشياء، فتجري على لسانه، فهذا من تعلم الفحش أحياناً بطرق قد تكون غير متوقعة، وهو موجود وحاصل ومشاهد، فالنبي ﷺ لم يكن فاحشاً ولا متفحشاً، وكان يقول: إن من خياركم أحسنكم أخلاقاً، يعني هذا على سبيل العموم، خيار المسلمين أحسنهم أخلاقاً، ولا غرابة، وستأتي الأحاديث التي تدل على أن الإنسان يبلغ بحسن الخلق درجة الصائم الذي لا يفطر والقائم الذي لا يفتر، والله أعلم.

وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.

  1. أخرجه مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب تفسير البر والإثم، برقم (2553).
  2. أخرجه البخاري، كتاب الأدب، باب الحياء، برقم (6117)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب شعب الإيمان، برقم (37).
  3. أخرجه البخاري، كتاب المناقب، باب صفة النبي ﷺ، برقم (3559)، وبرقم (6029)، في كتاب الأدب، باب لم يكن النبي ﷺ فاحشا ولا متفحشا، ومسلم، كتاب الفضائل، باب كثرة حيائه ﷺ، برقم (2321).

مواد ذات صلة