الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فقد أورد المصنف -رحمه الله- في باب "حسن الخلق":
وهذا الحديث في سنده بعض من تُكلم فيه، ولكن لشطره الأول: ما من شيء أثقل في ميزان المؤمن يوم القيامة من حسن الخلق، ما يشهد له ويقويه، وكذلك في جزئه الآخر: وإن الله يبغض الفاحش البذيء.
قوله: ما من شيء أثقل في ميزان المؤمن يوم القيامة من حسن الخلق، ظاهره العموم بمعنى أن حسن الخلق هو أثقل شيء في الميزان، وأفعل التفضيل (أثقل) لا تمنع التساوي، ولكنها تمنع أن يزيد شيء عليه، ما من شيء أثقل في ميزان المؤمن يوم القيامة، يعني يوجد هناك أشياء ثقيلة في الميزان تساوي حسن الخلق مثلاً، أو تقاربه، لكن لا يوجد شيء أثقل منه، وهذا بطبيعة الحال ينبغي أن يحمل على ما بعد التوحيد والإيمان وشهادة ألا إله إلا الله فهي أثقل شيء في ميزان العبد، لكن من شعب الإيمان وأعماله وخلاله فإن أثقل شيء في الميزان هو حُسن الخلق، وحُسن الخلق يشمل الأقوال والأفعال الجميلة التي تصدر عن الإنسان.
قوله: وإن الله يبغض الفاحش البذيء، والفاحش عرفنا أنه مَن يصدر منه ما يقبح ويشين، فالفحش هو الشيء القبيح الذي يستهجن من الأقوال والأفعال، وفي صفة رسول الله ﷺ أنه لم يكن فاحشاً ولا متفحشاً، لم يكن ذلك من صفته ﷺ ولم يكن يتكلف ذلك ويتصنعه، فالله -تبارك وتعالى- يبغض الفاحش البذيء، والبذاء هو القبح في الكلام حيث يصدر منه ما يستهجن، وتنفر منه الطباع السليمة، والفطر المستقيمة، فالإنسان الذي يصدر منه قبيح القول يقال له: بذيء، ويشمل ذلك السباب والشتائم والقذف، والإقذاع ونحو ذلك مما يتكلم به المتكلمون حيث لا يضبطون ألسنتهم فيصدر منها ذلك القول المستهجن، الفاحش البذيء.
سئل عن أكثر ما يدخل الناس الجنة، ما هو؟ قال: تقوى الله، وتقوى الله معناها أن يجعل العبد بينه وبين عذاب الله وقاية بفعل ما أمر واجتناب ما نهى، وهي كلمة جامعة، وحسن الخلق، بمعنى أنهم يدخلون بالتقوى ويدخلون بحسن الخلق، والواقع أن حسن الخلق هو من جملة التقوى، فالتقوى تشمل كل محابّ الله -تبارك وتعالى، كل ما يُتقى به ربنا ، تقوى الله وحسن الخلق وقرن بين تقوى الله وحسن الخلق، بعض أهل العلم يقولون: إن تقوى الله هي حسن الصلة به، بفعل أوامره وترك نواهيه، وأما حسن الخلق فهو حسن الصلة بالناس، فالإنسان الذي يحسن خلقه معهم فمعنى ذلك أنه يتواصل معهم ويتعامل معهم ويخالطهم بما يجمل ويحسن.
وسئل عن أكثر ما يدخل الناس النار؟ فقال: الفم والفرج، الفم؛ لأن الإنسان ركبت فيه الشهوات، وعامة هذه الشهوات الحسية الجسمانية تدور على الفم والفرج، الفم الغيبة والوقيعة في أعراض الناس ونحو ذلك، قد يجد لها كثير من الناس لذة، للأسف قد تكون فاكهة تطيب بها مجالسهم في نظرهم، فهذا فيه شهوة، وشيء لربما تميل إليه النفوس، ويصعب على الإنسان أن يضبط حركة اللسان؛ ولذلك كانت مجاهدة هذا اللسان وترك الناس وعدم الوقيعة في أعراضهم أو نحو ذلك من أشق الأمور، أن يروض الإنسان نفسه على ألا يذكر الناس إلا بخير، أن يدع الناس من شره، ولما قال معاذ : وإنا لمؤاخذون على ما نتكلم به؟ قال: ثكلتك أمك يا معاذ، وهل يكب الناس على وجوههم[2]، وفي الرواية الأخرى: على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم؟![3]، والله -تبارك وتعالى- يقول: مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ [ق:18].
وأما الفرج فذلك معروف، هو محل الشهوة، وإنما النظر واللذة التي تحصل به وما يحصل من لذة في اللمس، ومن لذات في السمع والشم ونحو ذلك إنما مرجعه ومصيره إلى اللذة الكاملة وهي المقارفة بالفرج، ولهذا قال النبي ﷺ: إن الله كتب على ابن آدم حظه من الزنا، أدرك ذلك لا محالة، فزنا العين النظر، وزنا اللسان المنطق، والنفس تمنى وتشتهي، والفرج يصدق ذلك أو يكذبه[4]، ولذلك تجد بعض الناس قد يلتذ بالسماع، ولو سألتم أحداً يعمل في الهاتف ممن يختص بهذه الأمور فتجد من تبلغ فواتير الهاتف عنده إلى سبعين ألفاً أو ثمانين ألفاً، والسبب مكالمات يجد فيها بعض كلام البغايا -أعزكم الله، يستمتع ويلتذ به، مع أنه لا يطاله من ذلك شيء، إنما هو كلام، ومع ذلك يصرف هذه الساعات الطوال، ويُغرَّر به، وتسلب أمواله بهذه الطريقة على شيء يسمعه، ثم بعد ذلك يفضي إلى القلب، ثم بعد ذلك تنبعث القوى الغريزية عند الإنسان لتحقيق الشهوة الكبرى التي يحصل بها الاستفراغ، استفراغ الشهوة، بأي طريق كان، فكان الفرج والفم من أكثر ما يدخل الناس النار؛ ولهذا قال النبي ﷺ: من يضمن لي ما بين لحييه ورجليه أضمن له الجنة[5]، المقصود به اللسان والفرج، الحديث الآخر أيضاً هو حديث أبي هريرة ، أدع هذا لليلة قادمة إن شاء الله، والله أعلم.
وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.
- أخرجه الترمذي، أبواب البر والصلة عن رسول الله ﷺ، باب ما جاء في حسن الخلق، برقم (2004)، وابن ماجه، كتاب الزهد، باب ذكر الذنوب، برقم (4246)، وأحمد في المسند، برقم (7907)، وقال محققوه: "حديث حسن"، وذكره الألباني في السلسلة الصحيحة، برقم (977).
- أخرجه ابن ماجه، كتاب الفتن، باب كف اللسان في الفتنة، برقم (3973)، وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم (205).
- أخرجه البخاري، كتاب المناقب، باب صفة النبي ﷺ، برقم (3559).
- أخرجه البخاري، كتاب القدر، باب وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ [الأنبياء:95]، برقم (6612)، ومسلم، كتاب القدر، باب قدر على ابن آدم حظه من الزنا وغيره، برقم (2657).
- أخرجه البخاري، كتاب الرقاق، باب حفظ اللسان، برقم (6474).