الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فكان الحديث في الليلة الماضية عن قول النبي ﷺ في باب تحريم الكبر والإعجاب: ألا أخبركم بأهل النار: كل عتل جواظ مستكبر. متفق عليه
فـ "الجَوّاظ" في قول النبي ﷺ: ألا أخبركم بأهل النار؟، كل عُتل جواظ مستكبر[1]، هو المتعاظم، وعبارة بعض أهل العلم يقول: هو المختال، وبعضهم يقول: هو الجموع المنوع، والحديث الذي بعده هو:
هذا الحديث مر الكلام على بعض مضامينه في مناسبات سابقة.
وقوله ﷺ: احتجت الجنة والنار، هذا على ظاهره، والله -تبارك وتعالى- لا يعجزه شيء، فيجعل لهذه المخلوقات من الإدراكات ما يجعلها تتكلم وتنطق بذلك، كما قال الله -تبارك وتعالى- للسموات والأرض: ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ [فصلت:11]، فهو على ظاهره.
وكذلك في قول الله -تبارك وتعالى: يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ [سبأ:10] يعني: داود ﷺ، وقول سلميان ﷺ: عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ [النمل:16]، قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ [النمل:18]، وهكذا أيضاً يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ [الجمعة:1] فذلك على ظاهره، والله يقول: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ [الإسراء:44]، وهكذا تسبيح الطعام في يده ﷺ، فهنا احتجت الجنة والنار، فقالت النار: فيّ الجبارون والمتكبرون، والجبار قيل: هو الذي يقهر غيره، ويتسلط عليه، ويُحمل هنا على التسلط والقهر بغير حق، وبعضهم يفسره بمعنى قريب من التعاظم والترفع، فيقولون: كل من تعدى طوره وتجاوز حده بغير حق فهو متجبر، وعلى كل حال هذه الكلمة تدل على قهر وتسلط، فتذكر غالباً في حق المخلوقين على سبيل الذم، فإذا كانت كذلك فهو قهر وتسلط بغير حق.
النار تقول: فيّ الجبارون والمتكبرون ومعنى التكبر باعتبار الغالب أن غالب أهل النار هم هؤلاء ولا يمنع ذلك من وجود الضعفاء تبعاً لهؤلاء، وقالت الجنة: فيّ ضعفاء الناس ومساكينهم، الضعفاء سواء كانوا ضعفاء من الناحية المادية، فلا يملكون من الدنيا شيئاً، أو كان هؤلاء ضعفاء لا سلطان لهم، أو كان هؤلاء لربما حصل الضعف من جهة قلة مداركهم، فهم ليسوا من أهل الإمكانات العقلية الذين لربما أورثهم ذكاؤهم المهالك والعَطَب، كل أولئك يقال لهم ضعفاء، "فيّ ضعفاء الناس ومساكينهم" وهذا باعتبار الغالب، وإلا فقد يوجد في الجنة من العظماء ومن الملوك ومن الكبراء فقضى الله بينهما، إنك الجنة رحمتي، المقصود بالرحمة هنا الرحمة المخلوقة، فالرحمة منها ما يكون صفة لله وهذه غير مخلوقة، ومنها ما يكون مخلوقاً وذلك ليس من صفته -تبارك وتعالى، وأن العبد إذا قال: اللهم أدخلنا في مستقر رحمتك، فإن هذه العبارة صحيحة إذا أريد بها الرحمة المخلوقة ومستقر رحمته هو الجنة، فالله هنا يقول: إنك الجنة رحمتي، أرحم بك من أشاء، وإنك النار عذابي، أعذب بك من أشاء، ولكليكما عليّ ملؤها، يعني أن الله وعد بملء كل واحدة من هاتين الدارين.
وأما النار فقد جاء في الحديث الآخر: أنه لا يزال يلقى فيها وهي تقول: هل من مزيد؟ حتى يضع الجبار فيها قدمه، فتقول: قطٍ قطٍ[3]، يعني كفاني كفاني، والله -تبارك وتعالى- يقول: يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ [ق:30]، فهي لا تزال تقول ذلك، والنار هائلة ضخمة لا يتصور مداها وعظمها، إذا كان أهل الفلك يزعمون أن الشمس أكبر من الأرض بملايين المرات، فالنبي ﷺ أخبر أن الشمس والقمر يكوران ويلقيان في النار[4]، إذنالنار أكبر من الأرض، وأكبر من القمر، وأكبر من الشمس، وأكبر من الأرض بكثير، فلو ألقيت فيها الأرض فعلى حسابات أهل الفلك بالنسبة لحساب الأرض إلى الشمس فتكون الأرض بالنسبة للنار صغيرة جدًّا، كرة صغيرة، فكيف بالناس بمن في الأرض من الأولين والآخرين؟، النار هائلة وضخمة، ويلقى فيها الحجر ما يصل إلى قعرها إلا بعد سبعين خريفاً[5]، في سبعين سنة، ويعبر بالخريف عادة عند العرب بخلاف ما يقوله بعض الناس اليوم بلغة الصحف: سبعين ربيعاً، أو عمر فلان يبلغ عشرين ربيعاً، فكل ذلك خلاف المعهود؛ لأن العرب يعبرون بالخريف لأنه وقت جني الثمار، فهو بالنسبة إليهم وقت سعة، ويسر، وخير، ذلك بخلاف الربيع فليس فيه إلا الزهور وما شابه ذلك من أثر المطر، لكن لا يجتنون فيه ثمارًا.
الحاصل هنا وعد بملء هذه وهذه، والله أعلم.
وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه.
- أخرجه البخاري، كتاب الأدب، باب الكبر، برقم (6071)، ومسلم، كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب النار يدخلها الجبارون والجنة يدخلها الضعفاء، برقم (2853).
- أخرجه مسلم، كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب النار يدخلها الجبارون والجنة يدخلها الضعفاء، برقم (2847).
- أخرجه البخاري، كتاب تفسير القرآن، باب قوله تعالى: وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ [ق:30]، برقم (4848)، ومسلم، كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب النار يدخلها الجبارون والجنة يدخلها الضعفاء، برقم (2848).
- أخرجه البخاري، كتاب بدء الخلق، باب صفة الشمس والقمر بحسبان، برقم (3200).
- أخرجه مسلم، كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب في شدة حر نار جهنم وبعد قعرها وما تأخذ من المعذبين، برقم (2844).