الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
ففي الباب السابق باب "كراهية تمني الموت بسبب ضر نزل به، ولا بأس به لخوف الفتنة في الدنيا" الآثار المنقولة عن السلف في هذا الباب متنوعة فمن ذلك:
ما جاء عن عمرو بن ميمون -رحمه الله- أنه كان لا يتمنى الموت، كان يقول: إني أصلي في اليوم كذا وكذا، حتى أَرسل إليه يزيد بن أبي مسلم، فتعنته، يزيد بن أبي مسلم أرسل إليه فتعنته.
يزيد بن أبي مسلم هذا مولى للحجاج بن يوسف الثقفي، وهو كاتبه ومشيره، وكان بعد وفاة الحجاج قد أقره الوليد بن عبد الملك، حيث صار أميرًا على المغرب، ثم بعد ذلك جاء سليمان بن عبد الملك، فدعاه فنظر إليه وإذا هو دميم الخلقة، قصير القامة، كبير البطن فازدراه واحتقره وشتمه.
فقال: مهلاً يا أمير المؤمنين، فإنك رأيتني وقد أدبرت الدنيا عني، ولو رأيتني حين إقبالها لم تقل ذلك، فقال له: لعنة الله عليك، وعلى من ولاك.
فالشاهد أنه قال له كلاماً شديداً، وقال: أترى الحجاج لا زال يهوي في النار أم بلغ قعرها؟ فقال: لا تقل هذا، فإن المرء يحشر مع من أحب، وقد ولاه أمير المؤمنين، يقصد أن الوليد بن عبد الملك هو الذي ولاه، وقبله عبد الملك.
فهذا الرجل أرسل إلى عمرو بن ميمون -رحمه الله- فتعنته ولقي منه شدة، فكان يقول: اللهم ألحقني بالأخيار ولا تخلفني مع الأشرار، واسقني من عذب الأنهار[1].
وكانت نهاية يزيد بن أبي مسلم نهاية سيئة وقتله الخوارج.
ويقول عمر بن ذر: كتب سعيد بن زبير إلى أبي كتاباً أوصاه بتقوى الله وقال: إن بقاء المسلم كل يوم غنيمة، فذكر الفرائض الصلوات، وما يرزقه الله من ذكره[2].
بمعنى أن الإنسان يزداد عملاً صالحاً ولا يتمنى الموت.
وكان القاسم بن مخيمرة يدعو بالموت، فلما حضره الموت قال لأم ولده: كنت أدعو بالموت فلما نزل بي كرهته[3].
وهذا كما ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- أن الإنسان قد يعزم على الصبر، ولكنه إذا نزل به المكروه لم يصبر.
وذكر أمثلة على هذا، وقد ذكرتها في الكلام على الصبر.
والنبي ﷺ يقول: لا تتمنوا لقاء العدو، واسألوا الله العافية، وإذا لقيتموه فاصبروا[4]، فإن الإنسان قد لا يصبر إذا نزل به البلاء.
يقول الذهبي: هكذا يتم لغالب من يتمنى الموت، يعني: أنهم إذا نزل بهم كرهوا ذلك.
والنبي ﷺ قد نهى أن يتمنى أحدنا الموت لضر نزل به، وقال: فإن كان لابد فاعلاً فليقل: اللهم أحيني ما كانت الحياة خيراً لي، وتوفني إذا كانت الوفاة خيراً لي[5].
وكان سفيان يتمنى الموت ليَسْلم من هؤلاء -يعني من السلطان- فلما مرض كرهه[6].
ومعلوم أن أبا جعفر المنصور حينما قدم وكان سفيان الثوري في مكة بين الفضيل بن عياض، وسفيان بن عيينة، وضع رأسه في صحن الكعبة على فخذ هذا، أو في حجر هذا، ورجليه في حجر الآخر، كانوا يقولون: اخرج لا تشمت بنا أهل البدع، فقال: وربِّ هذه البنية -يعني الكعبة، قال: إنه كافر بها إذا دخلها أبو جعفر.
فمات أبو جعفر، وكان قد أرسل الخشّابين من أجل أن يجعلوا له خشباً يصلب به سفيان الثوري، فمات أبو جعفر قبل أن يدخل مكة[7].
يقول رُسْتَه: سألت ابن مهدي عن الرجل يتمنى الموت مخافة الفتنة على دينه؟، قال: ما أرى بذلك بأساً، لكن لا يتمناه من ضر به أو فاقة، تمنى الموتَ أبو بكر وعمر ومن دونهما[8].
يعني: لا بأس أن يتمنى الإنسان إذا خاف الفتنة في الدين.
الإمام أحمد كان يقول: تمنيت الموت، وهذا أمر أشد عليّ من ذلك، يقصد أنه بعدما رُفعت الفتنة، ومعلوم ما أصابه من حبس وضرب إلى آخره، ثم بعد ذلك جاء من الخلفاء من رفع الفتنة، وأراد أن يقرب الإمام أحمد، فكان الإمام أحمد يقول: هذه -يعني فتنة الدنيا وإقبال الدنيا- أشد من تلك -يعني فتنة الجُّب والضرب- يقول: تمنيت الموت، يعني: بعدما أقبلت عليه الدنيا، وهذا أمر أشد عليّ من ذلك، ذاك فتنة الضرب والحبس كنت أحمله، وهذه فتنة الدنيا[9].
وكان يقول: أريد أن أكون في شِعب بمكة حتى لا أُعرَف، قد بليت بالشهرة، إني أتمنى الموت صباحاً ومساء[10].
هذه المعاني يحتاج الإنسان أن يقف عندها، وأن يتأملها ويتبصر بها، اليوم كون الإنسان يُعرَف لربما تُصبِّحه أمه وتُمسِّيه أن يكون معروفاً، وأن يتوظف بكذا، أو أن يحصل على كذا، فينشأ الصغير على مثل هذا، وبعض الناس يبحث عن الشهرة، ولو كان -نسأل الله العافية- بالبول ببئر زمزم، بالشذوذات والمخالفات.
وهذا الحسن بن منصور لما عُرض عليه قضاء نيسابور اختفى ثلاثة أيام، ودعا الله فمات في اليوم الثالث[11].
هؤلاء أئمة علماء، عُرض عليه القضاء فاختفى ودعا الله فمات.
القضاء من فروض الكفاية، ويجب أن يوجد من يسد هذا، لكن الإشكال حينما يتطلع إليه من لم يتأهل، ويرى أن هذا من المغانم، ومن المكاسب والمآثر، وأن هذه فرصة وظيفية يفرح بها ويفرح أهله ولربما يهنأ بهذا، فهذه مصيبة، نسأل الله العافية.
وكان المستعين بالله العباسي بعث إلى نصر بن علي يريد أن يوليه القضاء، فدعاه عبد الملك أمير البصرة وأمره بذلك، فقال: أرجع وأستخير الله تعالى، فرجع إلى بيته نصف النهار فصلى ركعتين، وقال: اللهم إن كان لي عندك خير فاقبضني، فنام، فأنبهوه فإذا هو ميت[12].
والإمام البخاري -رحمه الله- معروف أنه ابتلي، فدخل على بعض أقربائه بخَرْتَنْك فسُمِعَ يدعو ليلةً بعدما فرغ من ورده: اللهم إنه قد ضاقت عليّ الأرض بما رحبت فاقبضني إليك، فما تم الشهر حتى مات[13].
وهذا الوزير الشهير أبو علي محمد بن مُقلة، ومعلوم أن هذا الرجل قد ولي ولايات، وحصل له تقلبات وأحوال وأمور انتهت بنهايات سيئة، قطع لسانه وحصلت له أمور، كان يقول:
ما مللتُ الحياة لكن توثقـ | ـتُ بأيمانهم فبانت يميني |
كان وزيراً.
لقد أحسنتُ ما استطعت بجَهدي | حفظ أيمانهم فبانت يميني |
بعتُ ديني لهم بدنياي حتى | حرموني دنياهم بعد ديني |
ليس بعد اليمين لذة عيشٍ | يا حياتي بانتْ يميني فبِينِي[14] |
يعني يقول: يا حياتي بِينِي، يتمنى الموت.
وأخيراً هذا القاضي الفاضل لما سمع أن العادل أخذ مصر دعا بالموت خشية أن يستدعيه وزيره ابن شكر، أو يهينه فأصبح ميتاً، وكان ذا تهجد ومعاملة، يعني عبادة وصلة بالله كما يقول الذهبي -رحمه الله[15].
والله أعلم.
وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.
- سير أعلام النبلاء (4/ 161).
- المصدر السابق (4/ 326).
- المصدر السابق (5/ 203).
- أخرجه البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب: كان النبي ﷺ إذا لم يقاتل أول النهار أخر القتال حتى تزول الشمس (4/ 51)، رقم: (2966)، ومسلم، كتاب الجهاد والسير، باب كراهة تمني لقاء العدو، والأمر بالصبر عند اللقاء (3/ 1362)، رقم: (1742).
- أخرجه البخاري، كتاب المرضى، باب تمني المريض الموت (7/ 121)، رقم: (5671)، ومسلم، كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب كراهة تمني الموت لضر نزل به (4/ 2064)، رقم: (2680).
- سير أعلام النبلاء (7/ 278).
- المصدر السابق (7/ 251).
- المصدر السابق (9/ 207).
- المصدر السابق (11/ 215).
- المصدر السابق (11/ 216).
- المصدر السابق (11/ 384).
- المصدر السابق (2/ 136).
- المصدر السابق (12/ 443).
- المصدر السابق (15/ 227).
- المصدر السابق (21/ 341).