- قوله تعالى: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ...}
- كن في الدنيا كأنك غريب
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
ففي باب ذكر الموت وقصر الأمل أورد المصنف -رحمه الله- قول الله -تبارك وتعالى: أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ [الحديد:16].
الله -تبارك وتعالى- يعاتب أهل الإيمان ويحثهم، ويحضهم على الخشوع والانكسار عند سماع ذكره -تبارك وتعالى، وعند قراءة القرآن.
بل المعنى أوسع من ذلك أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ، ابن عباس -ا- يقول: إن هذا العتاب جاء بعد أربعة عشر عاماً.
وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ، طالت عليهم المدة، فكان ذلك سبباً لقسوة القلوب فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ.
أخذ بمنكبه تلطفاً به، ومن أجل المزيد من الانتباه، فقال له: كن في الدنيا كأنك غريب، أو عابر سبيل، والغريب هو غير المستوطن، فالغريب لا يتخذ ما يتخذه صاحب المحل، أو صاحب البلد، وإنما يتخفف من المتاع، ويأخذ ما يكفيه في غربته.
ثم زاده بعد ذلك قال: أو عابر سبيل، "أو" هذه يمكن أن تكون للانتقال أو للإضراب بمعنى بل أو عابر سبيل، بل عابر سبيل، فإن الغريب قد يستوطن ويسكن هذه البلد وتلائمه.
وعابر السبيل ينبغي أن يتقلل أكثر مما يتقلل الغريب، الغريب قد يمكث أياماً، أو يمكث شهوراً، أو نحو ذلك أما عابر السبيل فإنه يأخذ ما يكفيه لطعامه وشرابه، ثم بعد ذلك ينطلق لا شأن له بتلك الناحية والأرض، أو البلد التي مر بها، فهكذا ينبغي أن يكون حال الإنسان في هذه الحياة الدنيا؛ لأنه خرج من بطن أمه ليعبر فيبقى مدة في هذه الحياة -في هذه الدنيا، ثم بعد ذلك ينتقل إلى دار أخرى، يبقى في البرزخ ما شاء الله أن يبقى، ثم ينتهي إلى دار الخلود الأبدي في النعيم المقيم أو في العذاب الأليم، نسأل الله لنا ولكم العافية من النار، ومن حال أهل النار.
فالشاهد أن مثل هذا الحديث هو من الأحاديث العظيمة الجامعة فيما يتصل بالتقلل من الدنيا والزهد فيها، وقصر الأمل، فمن الخطأ أن يتعامل الإنسان مع زخارفها وحطامها، وما فيها من ملذات، وما إلى ذلك كأنه يعيش فيها أبداً، فيُعلِّق قلبه بها ويصرف أوقاته في طلبها وتحصيلها، إنما يأخذ منها بالقدر الذي يكفيه، وأما التوسع الزائد فإن مثل هذا لا حاجة إليه، والله تعالى أعلم.
وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.
- أخرجه البخاري، كتاب الرقاق، باب قول النبي ﷺ: كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل (8/ 89)، رقم: (6416).