الإثنين 16 / جمادى الأولى / 1446 - 18 / نوفمبر 2024
بعض ما جاء عن السلف في باب الكرم والجود (3-8)
تاريخ النشر: ٢١ / ذو القعدة / ١٤٢٩
التحميل: 1534
مرات الإستماع: 3232

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فيقول علي بن الحسين -رحمه الله: "إني لأستحي من الله أن أرى الأخ من إخواني فأسأل له الجنة وأبخل عليه بالدنيا، فإذا كان غداً قيل لي: لو كانت الجنة بيدك لكنت بيدك بها أبخل وأبخل"[1].

وعن ابن سيرين قال: "اشتكى رجلٌ فوُصف له لبن الجواميس، فبعث إلى عبد الرحمن بن أبي بكرة أن ابعث إلينا بجاموسة، فبعث إليه بتسعمائة جاموسة، فقال: إنما أردت واحدة، فبعث إليه أن اقبضها كلها"[2].

وكان عروة بن الزبير إذا كان أيام الرطب يَثلِم حائطه ثم يأذن للناس فيه فيدخلون يأكلون ويحملون[3]، يعني يكسر الجدار وبنى قصرًا بالعقيق -وأظن أن آثاره لا زالت معروفة إلى اليوم- ولما فرغ من بنائه دعا جماعة فطعم الناس وجعلوا يبكرون وينصرفون، وعروة بن الزبير من الفقهاء، الفقهاء السبعة في زمن التابعين .

وهذا يمكن أن يُستأنس به فيما يتعلق بما يفعله الناس مما يجعلونه من طعام ووليمة إذا نزلوا داراً جديدة، يسميه الناس عندنا اليوم "نِزالة"، فهذا لم يرد فيها عن النبي ﷺ شيء، وكان معروفاً في الجاهلية، فلو فعله الإنسان فلا بأس، ويكون ذلك من قبيل الشكر، ولكن لو تركه فإن ذلك لا يكون من التقصير، ولا يطالب بذلك شرعاً، لا يقال: إنه ترك عمل مشروعاً كالعقيقة مثلاً أو نحو هذا.

وكان عبد الله بن الزبير قد باع ماله بالغابة -الذي يعرف بالسقاية- من معاوية بمائة ألف دينار، ثم قسمها في بني أسد وتيم[4]،والغابة: هناك غابتان: غابة قريبة من أحد، وغابة شمال أحد، وهي معروفة الآن متنزه لأهل المدينة، يسمونها البيضاء.

وكان الحجاج قد عزل يزيد بن المهلب بن أبي صفرة وعذبه، فسأله أن يخفف عنه الضرب على أن يعطيه كل يوم مائة ألف درهم، يعني: يقول للحجاج: خفف عني الأذى والضرب وأعطيك كل يوم مائة ألف درهم، فجاء إليه الأخطل الشاعر النصراني المعروف ومدحه، مدح يزيد فأعطاه مائة ألفًا، فعجب الحجاج من جوده في تلك الحال وعفا عنه، واعتقله، ثم هرب من حبسه، ولما هرب قصد عبد الملك بن مروان بالشام فمر بغريب في البرية فقال لغلامه: استسقنا منهم لبناً، اذهب إلى هؤلاء الناس واطلب منهم لبناً، فسقوه فقال: أعطهم ألفاً، قال: إن هؤلاء لا يعرفونك؟ قال: "لكني أعرف نفسي"[5].

وكان يزيد بن المهلب يصل نديماً له يعني: واحدًا من جلسائه كل يوم، فلما عزم على السفر أعطاه ثلاثة آلاف دينار.

يقول الذهبي: "ملوك دهرنا أكرم، فأولئك كانوا للفاضل والشاعر، -يعني: يعطون الناس الفضلاء، وهؤلاء يعطون من لا يفهم شيئاً، ولا فيه نجدة أكثر من عطاء المتقدمين.

وأنشد زياد الأعجم يمدح يزيد بن المهلب يقول:

وما مات المهلبُ مذ رأينا على أعواد منبره يزيدا
له كفان كفُّ ندًى وجودٍ وأخرى تُمطر العَلَق الحديدا

فأمر له بألف دينار[6].


وجاء رجل إلى يزيد ومدحه وهو في الحبس فقال له:

أصبح في قيدك السماحُ مع الـ حِلمِ وفنُّ الآداب والخُطبُ
لا بطرٌ إن تتابعتْ نِعمٌ وصابرٌ في البلاء محتسبُ

يصح: لا بطَرٌ، ويمكن أن يكون: لا بطِرٌ إن تتابعت نعم، كل هذا صحيح، فقال يزيد: مالنا ولك يا هذا؟ قال: وجدتك رخيصاً فأحببت أن أسلفك، فقال لخادمه: كم معك من النفقة؟ قال: نحو عشرة آلاف درهم، قال: ادفعها إليه[7].


وكان لمحمد بن كعب القرظي أملاك بالمدينة، وحصّل مالا مرة فقيل له: ادخره لولدك، قال: "لا، ولكن أدخره لنفسي عند ربي، وأدخر ربي لولدي"[8].

واشترى عامر بن عبد الله بن الزبير نفسه من الله ست مرات[9]، يعني كل مرة يتصدق بديته.

وكان حماد بن أبي سليمان يزور بسطامًا فيقيم عنده سائر النهار، فإذا أراد أن ينصرف قال: انظر إلى تحت الوسادة فمرهم ينتفعون به، فيقول بسطام: فأجد الدراهم الكثيرة، يعني إذ زاره وضع تحت وسادته أموالا، ولما قدم أبو الزناد الكوفة على الصدقات كلم رجل حماد بن أبي سليمان الفقيه المعروف فيمن يكلم أبا الزناد يستعين به في بعض أعماله، يعني هذا رجل يقول لحماد بن أبي سليمان: كلموا لي أبا الزناد من أجل أن يوظفني، فقال حماد: كم يؤمل صاحبك من أبي الزناد؟ قال: ألف درهم، قال: قد أمرت له بخمسة آلاف درهم ولا يبذل وجهي إليه[10]، يقول: يعني أنا ما في داعٍ أن آتي وأشفع لفلان عند فلان على أساس أن يوظفك كم تريد؟ خذ خمسة آلاف.

ووفد المطلب بن عبد الله المخزومي على الخليفة هشام فوصله بسبعة عشر ألف دينار[11].

وكان الزهري من أسخياء الناس، كان يعطي فإذ فرغ ما معه يستلف من عبيده ويقول: "يا فلان أسلفني كما تعرف، وأُضْعِف لك كما تعلم"[12]، طبعاً ليس ذلك على سبيل المشارطة؛ لأن هذا لا يجوز.

وكان يطعم الناس الثريد ويسقيهم العسل، وكان يسمر على العسل كما يسمر أهل الشراب على شرابهم، ويقول: اسقونا وحدثونا، وكان يكثر شرب العسل ولا يأكل شيئًا من التفاح[13]،التفاح لعله إمّا الحامض لأنهم يقولون: إنه ينسي الحفظ، يضعف الذاكرة، أو عموم التفاح فإن بعض ما يؤكل يؤرث في البدن شيئًا من الرخاوة.

 وعن مالك قال: كان ابن شهاب الزهري من أسخى الناس، فلما أصاب تلك الأموال قال له مولى له وهو يعظه: قد رأيتَ ما مر عليك من الضيق فانظر كيف تكون، أمسكْ عليك مالك، قال: "إن الكريم لا تحنّكه التجارب"[14]، يقول: أنت سبق مرة عليك شدة وحاجة فادخر الآن لمّا حصلت على شيء من السعة من أجل أن تتفادى تلك الشدائد، فقال: "إن الكريم لا تحنكه التجارب"، يبذل.

ونزل ابن شهاب بماء من المياه فالتمس سلفاً فلم يجد، فأمر براحلته فنُحرت ودعا إليه أهل الماء، فمر به عمه فدعاه إلى الغداء، فقال: "يا ابن أخي، إن مروءة الرجل سَنةً تَذهب بذُلَِّ الوجه ساعة"[15]، يعني الإنسان يبقى يحافظ على المروءة سنة كاملة ثم يذل نفسه ساعة واحدة يذهب ذلك كله.

وقال سعيد بن عبد العزيز: قضى هشام عن الزهري سبعة آلاف دينار، وقال: "لا تعد لمثلها تدان"، أي  هشام بن عبد الملك، فقال: يا أمير المؤمنين، حدثني سعيد بن المسيب عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين[16]، قال الزهري: "وجدنا السخي لا تنفعه التجارب"[17].

ويقول الشافعي: "مر رجل تاجر بالزهري وهو بقريته والرجل يريد الحج فأخذ منه بأربعمائة دينار إلى أن يرجع من حجه، فلم يبرح الزهري حتى فرقها، فعرف الزهري في وجه التاجر الكراهية، فلما رجع قضاه وأمر له بثلاثين دينار ينفقها[18].

وقيل للزهري: "إنهم يعيبون عليك كثرة الدين، قال: وكم ديني؟ قيل: عشرون ألف دينار، قال: ليس كثيرًا وأنا مليء، لي خمسة أعين كل عين منها ثمنها أربعون ألف دينار"[19]، وهذا فيمن يجد مثل هذا.

وعن عقيل بن خالد أن ابن شهاب الزهري كان يخرج إلى الأعراب يفقههم، فجاء أعرابي وقد نفذ ما بيد الزهري، فمد الزهري يده إلى عمامة عقيل بن خالد فأخذها وأعطاه، وقال: "يا عقيل أعطيك خيرًا منها"[20].

  1. انظر: تاريخ دمشق لابن عساكر (41/ 385)، وتهذيب الكمال (20/ 393)، وسير أعلام النبلاء (4/ 394).
  2. سير أعلام النبلاء (4/ 412).
  3. انظر: حلية الأولياء (2/ 180)، وسير أعلام النبلاء (4/ 426).
  4. سير أعلام النبلاء (4/ 429).
  5. تاريخ دمشق لابن عساكر (74/ 119)، وسير أعلام النبلاء (4/ 503).
  6. سير أعلام النبلاء (4/ 504).
  7. انظر: وفيات الأعيان (6/ 300)، وسير أعلام النبلاء (4/ 505).
  8. تاريخ دمشق (55/ 145)، وسير أعلام النبلاء (5/ 68).
  9. تاريخ جرجان (ص: 203)، وسير أعلام النبلاء  (5/ 518).
  10. تهذيب الكمال  (7/ 278)، وسير أعلام النبلاء  (5/ 533).
  11. لم أقف عليه.
  12. تاريخ دمشق (55/ 342)، وسير أعلام النبلاء (5/ 335).
  13. سير أعلام النبلاء (5/ 335).
  14. تاريخ بغداد (3/ 176)، وسير أعلام النبلاء (5/ 338).
  15. سير أعلام النبلاء (5/ 340).
  16. رواه البخاري، كتاب الأدب، باب لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين، برقم (6133)، ومسلم، كتاب الزهد والرقائق، باب لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين، برقم (2998).
  17. تاريخ دمشق (55/ 377)، وسير أعلام النبلاء (5/ 340).
  18. سير أعلام النبلاء (5/ 340).
  19. تاريخ دمشق (55/ 376)، وسير أعلام النبلاء (5/ 340).
  20. تاريخ دمشق (55/ 379).

مواد ذات صلة