الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
ففي باب: فضل الجوع وخشونة العيش والاقتصار على القليل من المأكول والمشروب والملبوس وغيرها من حظوظ النفس وترك الشهوات، أورد المصنف -رحمه الله- حديث النعمان بن بشير -رضي الله عنهما- قال: "لقد رأيت نبيكم ﷺ وما يجد من الدقل ما يملأ به بطنه"[1]، رواه مسلم.
النعمان بن بشير من صغار الصحابة، وهو صحابي ابن صحابي، وقد مضى الكلام على ترجمته -رضي الله عنه وأرضاه-، قال: "لقد رأيت نبيكم ﷺ"، هو نبينا ﷺ وهو نبيه ولكنه كأنه عبر بهذا أراد الاقتداء، "لقد رأيت نبيكم"، أي: قدوتكم الذي تقتدون به، "لقد رأيت نبيكم ﷺ وما يجد من الدقل ما يملأ به بطنه"، رواه مسلم، الدقل هو التمر الرديء الذي لا يلتئم بعضه على بعض متفرق، ولهذا يأتي في بعض الآثار بقراءة القرآن بطريق الهذ نثرًا كنثر الدقل، وهو التمر الرديء.
فالنبي ﷺ ما يجد من الدقل ما يملأ به بطنه، يعني لا يشبع من التمر الرديء، لا يجد من التمر الرديء ما يشبعه فكيف بالتمر الجيد، وإذا قارن الإنسان ونظر إلى حاله وألوان التمور التي تجعل على مائدته بصنوف وأسماء كثيرة جدًا متعددة يتفنن الناس اليوم في تهيئتها، وتصبيرها وحفظها فإن ذلك مما يستدعي الشكر، ويستدعي الفكر من أجل أن ينظر الإنسان هل هو مع هذه النعم العظيمة محقق للعبودية لله -تبارك وتعالى-، وأن الله يعطيه على عمل صالح منه، وحسن سيرة واستقامة على الصراط المستقيم، أو أنه يعطى ذلك جميعًا على إعراض وغفلة، فيكون ذلك من قبيل الاستدراج أشرف الخلق لا يجد التمر الرديء، وإلى عهد قريب كما هو معلوم الأجداد ما كانوا يجد بعضهم إلا النوى يمصه يفطر به إذا كان صائمًا لا يجد شيئًا، وبعضهم يسافر وليس معه شيء إنما يأكل من النباتات التي في الصحراء، وبالأمس القريب أسمع عن أحدهم وصل إلى أماكن بعيدة في الشرق إلى بلاد الهند وفي الغرب وصل إلى حدود بلجيكا يبحث عن لقمة العيش عن شيء يسد به رمقه ولا زالت بقايا هؤلاء في بعض البلاد إلى اليوم شاهدة بما أقول.
وعن سهل بن سعد قال: "ما رأى رسول الله ﷺ النقي من حين ابتعثه الله تعالى حتى قبضه الله تعالى"[2]، ما رأى النقي المقصود بالنقي هو الخبز الحوارى، يعني الأبيض الذي نقي وأزيل عنه قشره مثل الخبز الذي نأكله الآن مثلاً، فالنبي ﷺ ما رآه، وهذه مبالغة إذا كان ما رآه فمعنى ذلك أنه ما أكله -عليه الصلاة والسلام-، يقول: ما رأى رسول الله ﷺ النقي من حين ابتعثه الله تعالى، حتى قبضه الله تعالى، فقيل له: هل كان لكم في عهد رسول الله ﷺ مناخل؟"، يعني تصفي هذا الدقيق، قال: "ما رأى رسول الله ﷺ منخلاً من حين ابتعثه الله تعالى"، ما رأى منخلاً يعني من حين بعثه إلى الناس إلى أن توفي ما رأى منخلاً يعني كانوا يأكلون الشيء كما اتفق مع قشره غير منقى ولا معتنى به كما هو حال المترفين في ذلك الوقت، أما اليوم فإن أقل الناس يأكل الخبز المنقى دقيقه المصفى.
يقول: "فقيل له: كيف كنتم تأكلون الشعير غير منخول؟"، بمعنى أن الشعير فيه قشر فإذا ما نقي هذا خبز الشعير الذي الآن الشعير يعطى للدواب فإذا ما نقي فإنه ينشب بالحلق لا يستسيغ الإنسان أكله، "فقيل له: كيف كنتم تأكلون الشعير غير منخول؟ قال: كنا نطحنه وننفخه فيطير ما طار وما بقي ثريناه"، ثريناه يعني عجناه، يعجن ثم بعد ذلك يأكلونه، فهكذا كانت حياته -عليه الصلاة والسلام-، لا زالت أقول وأعيد: ليس الإنسان مطالبًا أن يأكل خبز الشعير الذي ما نقي، وليس هذا هو المقصود، لكن اعلم أن تظافر النعم لا يعني منزلة العبد عند الله -عز وجل-، وأن المقياس ليس بكثرة العرض، وأن تتابع النعم على الإنسان لا يعني أن ذلك كرامة وإفضال وإنعام خصه الله به لتقواه ولرضى الله عنه، قد يكون استدراجا ليزداد من الإثم، ولهذا فإن أهل العلم ينظرون إلى طريقة الإنسان فمن كان مستقيمًا وأعطي من الدنيا فهذا مما عجل له من ثوابه فيها.
وأما إذا كان ذلك بحال سيئة وإسراف على نفسه وإعراض عن الله والدار الآخرة فإن هذا يكون من قبيل الاستدراج، -والله أعلم-.
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه
- أخرجه مسلم، في أوائل كتاب الزهد والرقائق، برقم (2977).
- أخرجه البخاري، كتاب الأطعمة، باب ما كان النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه يأكلون، برقم (5413).