الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
ففي باب: فضل الجوع وخشونة العيش والاقتصار على القليل من المأكول والمشروب والملبوس وغيرها من حظوظ النفوس، أورد المصنف -رحمه الله- حديث محمد بن سيرين عن أبي هريرة قال: "لقد رأيتني وإني لأخر فيما بين منبر رسول الله ﷺ إلى حجرة عائشة -رضي الله عنها- مغشيًا عليّ فيجيء الجائي فيضع رجله على عنقي ويرى أني مجنون وما بي من جنون ما بي إلا الجوع"[1]، رواه البخاري.
الحديث الذي مضى وهو حديث أبي هريرة : "والله الذي لا إله إلا هو إن كنت لأعتمد بكبدي على الأرض من الجوع، وإن كنت لأشد الحجر على بطني من الجوع، ولقد قعدت يومًا على طريقهم الذي يخرجون منه فمر بي النبي ﷺ..."[2]، الحديث، وهنا يقول: "لقد رأيتني وإني لأخر"، يعني أسقط فيما بين منبر رسول الله ﷺ إلى حجرة عائشة -رضي الله عنها- مغشيا عليّ فيجيء الجائي فيضع رجله على عنقي ويرى أني مجنون"، يعني يظنون أنه يصرع من الجنون وما به إلا الجوع.
يقول: "وما بي جنون ما بي إلا الجوع"، رواه البخاري.
والحديث الآخر هو حديث عائشة -رضي الله عنها- قالت: "توفي رسول الله ﷺ ودرعه مرهونة عند يهودي في ثلاثين صاعًا من شعير"[3]، متفق عليه.
ومعلوم أن الشعير ليس من أجود الطعام ومع ذلك ما كان النبي ﷺ يجد شيئًا حتى من الشعير واحتاج إلى أن يقترض من هذا اليهودي من أجل أن يقيت أهله، وكان يقيت ﷺ تسعة أبيات.
وذكر بعده حديث أنس قال: "رهن النبي ﷺ درعه بشعير"، يقول: "ومشيت إلى النبي ﷺ بخبز شعير وإهالة سنخة"[4]، الإهالة السنخة هي الودك أو الدهن الذي يستخلص من الإلية، ومعنى سنخة يعني أنها متغيرة، تغيرت الرائحة والطعم، فهذا يقول: "ومشيت إلى النبي ﷺ بخبز شعير وإهالة سنخة، ودعاه يهودي إلى إهالة سنخة فأجابه -عليه الصلاة والسلام-، ولقد سمعته يقول: "ما أصبح لآل محمد صاع ولا أمسى، وإنهم لتسعة أبيات"[5]، رواه البخاري.
فأنس يقول: "ولقد سمعته أي النبي ﷺ، فكأن النبي ﷺ يقول ذلك معتذرًا ومبينًا أنه لم يفعل ذلك، لم يقبل ذلك من هذا اليهودي أو لم يقترض إلا من أجل أنه لا يجد شيئًا يغنيه عنه، وقد يقول قائل: لم يقترض ﷺ من الموسرين من أصحابه، فقد يقال: بأنه -عليه الصلاة والسلام- لربما لم يكن في ذلك الوقت عندهم شيء، وربما يكون ذلك أنه خشي ألا يقبلوا منه ﷺ أن يعيده لهم، أو غير ذلك من الأعذار، أو لبيان أنه يجوز التعامل مع اليهود بالبيع والشراء والاقتراض، والله -تبارك وتعالى- يقول: لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ [الممتحنة:8] فبذلك الوقت كان بين النبي ﷺ وبين اليهود عهد فالله يقول: أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ فعدا فعل الإقساط بــ"إلى" ودل على ذلك أن هذا الفعل مضمن معنى فعل آخر يصح تعديته بــ"إلى"، يعني الإفضاء تفضوا إليهم يكون بينكم وبينهم مصالح متبادلة، وما إلى ذلك.
فالشاهد أن النبي ﷺ كأنه يعتذر بهذا: ما أصبح لآل محمد صاع ولا أمسى، ما عندهم شيء في سائر اليوم، وإنهم لتسعة أبيات، رواه البخاري.
فالمقصود أن هذا كان عيشه ﷺ من التقلل من الدنيا ولو شاء لصار أغنى الناس فيها، ولصار له من الملك ما لا يقادر قدره، فهو أكرم الخلق على الله -تبارك وتعالى-، ولكن الله ادخر له ذلك في الآخرة، ولو كان الفقر يضر أحدًا والحاجة أو القلة من الدنيا لضر ذلك أصحاب النبي ﷺ، ولكنه ما ضرهم، وكان يتخوف -عليهم عليه الصلاة والسلام- الدنيا دون الفقر، فيقول: ما الفقر أخشى عليكم، ولكن أخشى أن تبسط عليكم الدنيا، أو تفتح عليكم الدنيا[6].
- أخرجه البخاري، كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب ما ذكر النبي -صلى الله عليه وسلم- وحض على اتفاق أهل العلم، وما أجمع عليه الحرمان مكة، والمدينة، وما كان بها من مشاهد النبي -صلى الله عليه وسلم- والمهاجرين، والأنصار، ومصلى النبي -صلى الله عليه وسلم- والمنبر والقبر، برقم (7324).
- أخرجه البخاري، كتاب الرقائق، باب كيف كان عيش النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه، وتخليهم من الدنيا، برقم (6452).
- أخرجه البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب ما قيل في درع النبي -صلى الله عليه وسلم-، والقميص في الحرب، برقم (2916).
- أخرجه البخاري، كتاب الرهن، باب الرهن في الحضر، برقم (2508).
- أخرجه البخاري، كتاب البيوع، باب شراء النبي -صلى الله عليه وسلم- بالنسيئة، برقم (2069).
- أخرجه البخاري، كتاب الرقائق، باب ما يحذر من زهرة الدنيا والتنافس فيها، برقم (6425)، ومسلم، في أوائل كتاب الزهد والرقائق، برقم (2961).