الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
ففي فضل الجوع أورد المصنف -رحمه الله-:
النبي ﷺ لما اجتمعت الأحزاب في السنة الخامسة من الهجرة، وذلك في شهر شوال، وقيل غير ذلك، اجتمعت قريش ومن معها من الأحابيش وغطفان إلى غير ذلك من القبائل الذين حاصروا المدينة، فأشار سلمان على النبي ﷺ بحفر الخندق. قال: كنا إذا خفنا خندقنا، يعني: حفرنا خندقًا، فهي عادة فارسية، فالنبي ﷺ أمر بحفر الخندق، وقسم ذلك بين أصحابه من أوله إلى آخره، وكان يحفر ﷺ معهم، وحفروه في مدة وجيزة على اختلاف في الروايات، هل بلغ ذلك عشرين ليلة، أو كان أقل من هذا، وهو بعمق قامة رجل تقريبًا، وعرضه يقرب من المترين على اختلاف في الروايات، فحفروه، وكان النبي ﷺ يحفر معهم فعرضت لهم هذه الكُدْية، والكدية هي عبارة عن صخرة، حجر صلب لا تعمل فيه المعاول، يعني: آلات الحفر كالمِسحاة ونحوها لا تؤثر فيه، وأنتم تعرفون المدينة تحيط بها الحِرار من ثلاثة جوانب، والحِرار هي حجارة بركانية سوداء صعبة، يصعب السير عليها، وما في باطن الأرض حتى من الناحية الشمالية التي تعتبر هي الطريق والمدخل والمخرج إلى المدينة، في باطن الأرض من الحجارة ما الله به عليم، فعرضت لهم هذه الكُدْية في الخندق فقال النبي ﷺ لما كلموه، قال: أنا نازل ثم قام وبطنه معصوب بحجر، من شدة الجوع، وقد ذكرنا في مناسبة سابقة -بخصوص ربط الحجر- أن بعض أهل العلم قال: إذا خلا البطن يميل الظهر إلى الأمام، فيتعب الإنسان في قيامه وقعوده ومشيته، فإذا ربط الحجر كان ذلك أدعى لثباته وتماسكه، وبعضهم يقول: ذلك من أجل أن الضغط على المعدة يخفف من حرارة الجوع، وهذا الذي يظهر -والله تعالى أعلم.
فالشاهد أن النبي ﷺ قام وبطنه معصوب بحجر.
يقول: ولبثنا ثلاثة أيام لا نذوق ذواقًا، يعني: لا نطعم فيها، ما أكلوا ويحفرون، وفي برد شديد حتى إن النبي ﷺ خرج على أصحابه، وهم يحفرون الخندق في غداة باردة، فقال: اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة، فاغفر اللهم للأنصار والمهاجرة[1].
يقول: فأخذ النبي ﷺ المعول فضرب فعاد كثيبًا أهْيل أو أهيم، يعني: تحول هذا الحجر إلى متفتت ينهال، وهذه معجزة له ﷺ، وليست هذه قوة بشرية عادية، مع أن النبي ﷺ كان في غاية الجوع، ومن كان يعاني هذه المعاناة من الجوع فإن قوته تضعف بلا شك، يقول: فعاد كثيبًا أهيل أو أهيم، فقلت: يا رسول الله، ائذن لي إلى البيت، هذا جابر لما رأى النبيَّ ﷺ قد حسر بطنه عن حجر، وجاء أيضًا أن أصحابه كانوا يربطون حجرًا حجرًا على بطونهم، وكان ﷺ يربط حجرين، فكان كأصحابه كواحد منهم يجوع ويعمل معهم ويصيبه ما يصيبهم ﷺ.
فلما رآه جابر بن عبد الله -ا- بهذه الحال لم يطق ذلك، فقال: ائذن لي إلى البيت، يقول: فقلت لامرأتي، هذا جابر يعني: معناه فأذن له، فذهب فقال لامرأته: رأيت بالنبي ﷺ شيئًا ما في ذلك صبر، يعني: ما عليه صبر، أمر لا يمكن أن يصبر الإنسان وهو يشاهده؛ لأن قلبه يتقطع من الأسى والألم والحرقة، أفضل البشر يربط على بطنه حجرًا، أنت لو رأيت جارك، أو رأيت فقيرًا يربط فعلًا من شدة الجوع على بطنه حجرًا فإن الأرض لا تحمل الإنسان، ولا يستطيع أن يقر له قرار وهو يرى هذه الحالة، فكيف بالنبي ﷺ؟!، فقال لامرأته: فعندك شيء؟ ومن عادة النساء لاسيما في أوقات وأحوال كتلك أنها تترك شيئًا لأيام الضرورة، للشدة، ترفع شيئًا من طعام أو نحو ذلك، فإذا اشتدت الحاجة أخرجته، قال لها: فعندك شيء؟ فقالت: عندي شعير وعَناق، في بعض الروايات صاع من شعير والصاع أربعة أمداد ماذا يكفي؟ وشعير، من الذي يأكل الشعير اليوم؟ وعَناق وليست مِعزى؛ لأن العناق هي الأنثى من المعز الصغير، فهذه يقال لها عناق، فيقول: فذبحت العناق، وطحنت الشعير حتى جعلنا اللحم في البرمة، البرمة مثل القدر، لربما كان ذلك من حجارة وهو موجود في بعض النواحي إلى اليوم.
يقول: ثم جئت النبي ﷺ والعجين قد انكسر، معنى قد انكسر يعني لان وصار رطبًا وتمكن منه الخمير، يعني: تهيأ للنضج، يقول: والعجين قد انكسر والبرمة بين الأثافي قد كادت تنضج، الأثافي هي الحجارة التي يوضع عليها القدر، يقول: فقلت: طُعيم لي، ما أراد أن يقول: يا رسول الله عندي طعام مائدة، قال: طُعيم، حتى لا يحرج فيما بعد، إذا جاء النبي ﷺ وجد المسألة صاعًا من شعير، وإذا طحن هذا الصاع ماذا سيبقى منه؟ فقال: طُعيم، وهذا أيضًا أليق في التواضع، من دعا إنسانًا، قال: عندنا شيء يسير، عندنا طعام يسير، عندنا مناسبة بسيطة، فإذا جاء الضيف وجد الأمر أحسن مما قيل، أفضل من أن يضخم الأمر ويعظمه، ثم إذا جاء الناس وجدوا الأمر دون ذلك.
يقول: فقلت: طُعيم لي، فقم أنت يا رسول الله، ورجل أو رجلان، من أجل أن يكفي، قال: كم هو؟ طبعًا زوجته قالت له منذ البداية كما جاء في بعض الروايات، قالت: لا تفضحنا، يعني: أخبر النبي ﷺ عن الحال لا يظن هذا الطعام كثيرًا، ثم بعد ذلك يأتي بالناس أو يأتي بعدد كثير ويحرج، فقال النبي ﷺ: كم هو؟ يقول: فذكرت له، فقال: كثير طيب، وهذا من تواضعه ﷺ، قال: قل لها: لا تنزع البرمة ولا الخبز من التنور -والتنور معروف- حتى آتي، هذا يُشعر أنه ستكون الآن معجزة، لا تنزعه حتى آتي فقال: قوموا لأهل الخندق جميعًا، يقدرون بألف، في بعض الروايات أنهم ألف، ومن ثلاثة أيام ما أكلوا، هؤلاء لو جئت لهم بمائة رأس من الغنم لربما أكلوها مع عظامها، فدعا أهل الخندق، قال: قوموا، فقام المهاجرون والأنصار، يقول: فدخلت عليها فقلت: ويحكِ، الآن حرج كبير، جاء هؤلاء جميعًا، ويحكِ، وكلمة ويحكِ كلمة تقال لمن يُترحم له، كيف فعلت هذا بنفسك؟ ويحكِ قد جاء النبي ﷺ والمهاجرون والأنصار ومن معهم، وهي امرأة عاقلة، قالت: هل سألك؟ قلت: نعم، طبعًا هي سألت هذا السؤال، إذا كان سأله النبي ﷺ عن قدر الطعام ثم يقول للمهاجرين والأنصار وأهل الخندق تعالوا، فمعنى ذلك أن الأمر سيكون فيه معجزة، لكن لو ما سأل فقد يكون نسي وصيتها فلم يخبر النبي ﷺ عن قدر الطعام، فظن النبي ﷺ أنه طعام كثير، فاطمأنت لما قال: إن النبي ﷺ قد سأله، قال: ادخلوا ولا تضاغطوا طبعًا هؤلاء حوالي ألف ما يكفيهم البيت، ولربما ما يكفيهم حتى المسجد، وجاء في بعض الروايات أنه أدخلهم عشرة عشرة، تدخل مجموعة وتأكل، ثم تأتي المجموعة الثانية وهذا الأمر الطبيعي؛ لأنه لا يمكن أن يَدخل ألف ويجلسون على هذه البرمة، يقول: فجعل يكسر الخبز ويجعل عليه اللحم ويخمِّر البرمة والتنور إذا أخذ منه ويقرب إلى أصحابه، يعني: يغطي التنور إذا أخذ منه، ويقرب إلى أصحابه، ثم ينزع، فلم يزل يكسر ويغرف، يعني: يكسر لهم من الخبز ويغرف حتى شبعوا، الألف على عناق وصاع من الشعير! ﷺ، يقول: وبقي منه فقال: كُلي هذا وأَهدي -يعني يوجد زيادة- فإن الناس أصابتهم مجاعة[2] والحديث أخرجه البخاري ومسلم
وله رواية ثانية أيضًا طويلة أتركها غدًا -إن شاء الله تعالى- وأعلق على الحديث، هذا، وأسأل الله أن ينفعنا وإياكم بما سمعنا، وأن يحشرنا تحت لوائه ﷺ، وأن يسقينا شربة من حوضه، وأن يجعلنا وإياكم من المتبعين لسنته المقتدين بآثاره، والله أعلم.
- أخرجه البخاري، كتاب الرقاق، باب: لا عيش إلا عيش الآخرة، (8/ 88)، برقم: (6414)، ومسلم، كتاب الجهاد والسير، باب غزوة الأحزاب وهي الخندق، (3/ 1431)، برقم: (1805).
- أخرجه البخاري، كتاب المغازي، باب غزوة الخندق وهي الأحزاب، (5/ 108)، برقم: (4101) ومسلم، كتاب الأشربة، باب جواز استتباعه غيره إلى دار من يثق برضاه بذلك، وبتحققه تحققا تاما، واستحباب الاجتماع على الطعام، (3/ 1610)، برقم: (2039).